نواصل حديثنا عن الادعية المباركة وما تتضمنه من دقائق التعبير البلاغي ونكاته المتنوعة... ومن ذلك ما حدثناك عنه في لقاءات سابقة ونعني به احد ادعية النبي(ص) حيث قال (يا مؤنس المستوحشين ويا أنيس المنفردين، ويا ظهر المنقطعين ويا قوة المستضعفين، ويا كنز الفقراء، ويا موضع شكوى الغرباء...). هذه الفقرات من الدعاء حدثناك عنها في لقاءات سابقة عداً الفقرة الاخيرة وهي "يا موضع شكوى الغرباء".. وفي حينه اوضحنا لك النكات الكامنة وراء العبارات المذكورة او وراء الاستعارات المتقدمة، حيث تتضمن جملة نكات وفي مقدمتها ان الدعاء قد استعار لكل صنف من الناس ما يتناسب وحاجاتهم فالمستوحش يحتاج الى المؤنس، والمنفرد الى الأنيس والضعيف الى القوي، والفقير الى الكنز، وهكذا... اما بالنسبة الى "الغريب" وهذا ما نعتزم ان نحدثك عنه فيحتاج الى من يستمع الى شكواه... والسؤال الان هو: لماذا جعل الدعاء الغريب مقترناً بمن يستمع الى شكواه ولم يجعله بحاجة الى الكنز او المؤنس او الأنيس... الخ؟... هذا ما نحاول الاجابة عنه الآن..
من الواضح ونعتذر لتكرار ما سبق ان الكنز يتناسب مع حاجة الفقير مثلاً ولكنه لا يتناسب مع حاجة الفقير مثلاً، ولكنه لا يتناسب مع حاجة الغريب وهنا قد نتساءل فنقول: المستوحش والمنفرد يحتاجان الى المؤنس والأنيس، لكنهما يتحدان ويشتركان مع الغريب، فلماذا جعل الدعاء الغريب بحاجة الى من يشكو حاله اليه؟ ... انه سؤال في غاية الاهمية؟ وذلك لان "الغريب" فعلاً لا يفترق عن المستوحش والمنفرد في كونهم جميعاً لا جهة لهم يركنون اليها لطرد الوحشة والانفراد والغربة...
واذن: ما هي النكتة الكامنة وراء الغريب.
من حيث حاجته الى من يشكو اليه دون رفيقيه اللذين لا يشاركانه في الحاجة الى الشكوى؟...
هذا ما سنوضحه الآن...
الغريب يجسد نمطاً من الشخصيات التي تجد ذاتها غير منسجمة مع قومها او وطنها من حيث الانتماء العقائدي او العادات والتقاليد والاعراف السائدة لدى هذا الوطن او اولئك القوم... الخ. طبيعياً المنفرد والمستوحش هما كذلك من حيث عدم تكيفهم البيئي، الا ان الفارق هو ان الغريب حتى لو وجد من يتعاطف مع حالته الانفرادية فيصبح اليفاً او يطرد عنه وحشته فيصبح مؤنساً، فانه يبقى متمسساً الغربة لماذا؟... لان مشكلته ليست عدم وجود الشخص بل عدم وجود من يشاركه في افكاره وعواطفه و.... الخ... من هنا فان الغريب يظل في الحالات جميعاً غريباً حتى في احبابه واسرته ومجتمعه وامته ...الخ.. والى مثل هذه الحالة الا تكون الشكوى هي وسيلته الوحيدة في التعبير عن ازماته؟ ان الامر لكذلك...
من هنا، فان الدعاء نسج هذه الفقرة القائلة "يا موضع شكوى الغربا"، بصفة ان الله تعالى هو المصدر الوحيد الذي يعلم تماماً ما يدور في خلد الغريب وما يحتاج اليه، ومن ثم وهذا هو الاهم انه "يستمع" الى شكوى الغريب، والاستماع له فاعليته العظيمة في التفريج عن ازمة الغريب.. فاذ اضفنا الى ذلك ان الاجابة لشكواه ليست ببعيدة: عندئذ فان توتر والأنس والتمزق وسائر مخلفات الشعور بالغربة سوف يتضاءل او يزول حتما من خلال الاستماع الى شكواه والاجابة لحاجاته.
اذن: امكننا ان نتبين جانباً من الاسرار الكامنة وراء عبارة الدعاء القائلة "يا موضع شكوى الغربا" والمهم بعد ذلك ان نستثمر نحن القراء للادعية هذا الجانب وسواه فنتقدم بحاجاتنا الى الله تعالى ونتوسل به على ان يوفقنا لممارسة الطاعة والتصاعد بها الى النحو المطلوب.
*******