لا زلنا نحدثك عن الادعية المباركة وما تتضمنه من فنون التعبير وبلاغته، .. ومن ذلك: ما حدثناك عنه في لقاءات سابقة عن احد ادعية النبي(ص) وهو "يا مؤنس المستوحشين ويا أنيس المنفردين، ويا ظهر المنقطعين، ويا قوة المستضعفين، ويا كنز الفقراء ... الخ.
هذا القطع من الدعاء حدثناك عن فقراته واستعاراته الاولى الى عبارة "يا مؤنس المستوحشين" و"يا أنيس المنفردين" و"يا ظهر المنقطعين" ... ونحدثك الان عن فقراته الاخرى ومنها قوله(ص): "ويا قوة المستضعفين ويا كنز الفقراء..."
وهاذ ما نبدأ به.
قبل ان نحدثك عن هذا الموضوع، نلفت نظر من جديد الى ان هذا الدعاء يتميز بكونه مجموعة عبارات اسعارية تتخلع على كل موضوع ما يناسبه من اعارة هذه الصفة او تلك.. فقد لاحظت مثلاً ان "المستوحش" خلع على من يرعاه طابع "المؤنس"، و"المنفرد" خلع على من يرعاه طابع "الأنيس"، والمنقطع خلع على من يرعاه طابع "الظهر" بصفة ان المستوحش يحتاج الى من يطرد عنه وحشة الظلام، والمنفرد يحتاج الى من يألفه والمنقطع يحتاج الى من يسنده وهو الظهر وهكذا...
وبالنسبة الى المستضعف نجد ان سمة القوة هي ما يحتاج اليها ...واما الفقر فيحتاج الى سمة هي "الكنز" والنكتة هي: ان نوضح لك الان طبيعة هذه السمات، فنقول: نعتقد ان "المستضعف" لا يحتاج الحديث عنه الى مزيد من التوضيح لان المستضعف هو الشخصية الضعيفة، والضعيف يحتاج الى "القوة" ولذلك عبر الدعاء عن ذلك بقوله(ص) (ويا قوة المستضعفين)... ولكننا سنفصل الحديث عن الاستعارة الاخيرة وهي قوله(ص) : (ويا كنز الفقراء)... هنا مع ان هذه العبارة او الاستعارة واضحة بدورها ولكن مع ذلك فان النكات الكامنة وراءها تحتاج الى تحليل او توضيح آخر، وهذا ما نبدأ به الان قد يقول قائل مثلاً: ان البعض يحتاج الى "المال" وحينئذ فان صفة "المغني" مثلاً تتناسب مع حاجة الفقير الى الغنى المالك للمال فيقال مثلاً: يا مغني الفقراء ولكن الدعاء لم يستخدم هذه العبارة بل استخدم عبارة "يا كنز الفقراء"... فما هو السبب وراء ذلك؟... من الواضح ان "الكنز" يتميز بكونه مصدراً مالياً يقع في باطن الارض... ويختلف عن سائر المصادر بكونه يحمل جملة نكات منها: ان العاثر على الكنز يبتهج وباكتشافه بنحو لا يتحقق له الا يحتاج بنفس القوة بمصادر المال الاخرى: كالمساعدة مثلاً او الارث او.... الخ.. وسبب ذلك هو انه مخفي ثم يظهر... ومن الطبيعي ان الشيء اذا كان ظاهراً من اصله فان الشخصية لا تستجيب له بنفس الاستجابة الكبيرة التي تصدر غماً في حالة ظهور الشيء بعد ان كان مخفياً...
بالاضافة الى ذلك ثمة نكتة اخرى هي ان الكنز لا يقرن العثور عليه بطابع "الذل" فالفقير مثلاً يتحسس "الذل" لمجرد كونه يتسلم من الاخر، او لان الشخصية التي تساعده "تمن" عليه.. او لان المال الذي يحصل عليه يقترن بالعجل او ببذل الجهد ... الخ. بينما يظل عثوره على الكنز غير مقرن لا بالذل ولا بالمنّة ولا بالتعب... الخ.
يضاف الى ذلك جميعاً الى ان "الكنز" غالباً ما يتميز بكونه مصدراً مالياً كبيراً وليس عادياً ... انه يقترن بمالية ضخمة كالمسكوكات الذهبية الكثيرة مثلاً، وهذا جميعاً يفسر لنا الاسرار الكامنة وراء الاستعارة التي نسجها النبي(ص) حينما قال "يا كنز الفقراء" دون ان يستخدم سواها من الاستعارات المعبرة عن الحاجة لدى العبد، حيث ان الكنز يظل متناسباً على حجم الحاجة وحجم المصدر لها...
اخيراً يجدر بنا قراءة الدعاء ان نستثمر قراءتنا لهذا المقطع من الدعاء، وذلك بان نتجه الى الله تعالى وليس الى العبد بان يفتح لنا كنز رحمته في الآخرة والدنيا، وان يوفقنا الى طاعته والتصاعد الى النحو المطلوب.
*******