وتؤكد هذه المجزرة الحاجة الملحة إلى اليقظة والتشكيك تجاه أي مبادرات من إدارة بايدن، حيث يُظهر سجلها نمطًا من دعم وتمكين القمع والعنف المستمرين اللذين يتعرض لهما الشعب الفلسطيني. يجب أن تدرك المقاومة أن السلام الحقيقي والعدالة لا يمكن تحقيقهما من خلال التعامل مع أولئك الذين يصطفون بشكل منهجي مع مضطهديهم وعليه فيجب قراءة كل بند من بنود اتفاق الهدنة مئات المرّات.
تحرير الرهائن لا يغير من تفوق المقاومة ميدانياً
منذ البداية، كان من الواضح أن الثقة في أي مبادرة من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل أمر غير حكيم، نظراً لتاريخهما المشترك في ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية. وقد تأكدت صحة هذه الشكوك بشكل مأساوي عندما تحول ما يسمى بالرصيف البحري الإنساني الذي أنشأته الولايات المتحدة إلى منصة انطلاق للعمليات العسكرية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. وتمثل مذبحة النصيرات في غزة شهادة مروعة على هذا التحول.
ولكي نفهم حجم هذه الخيانة، لابد من الخوض في تفاصيل مجزرة النصيرات، حيث نفذت الولايات المتحدة وإسرائيل، بحجة إنقاذ أربع رهائن، عملية أدت إلى مقتل أكثر من 210 مدنيين أبرياء، معظمهم من النساء والأطفال. وتسللت قوات خاصة إسرائيلية، متنكرة بزي عمال الإغاثة الإنسانية، إلى مخيم النصيرات عبر شاحنة انطلقت من الميناء الأمريكي بالذات.
وكشفت هذه العملية بشكل صارخ أن الميناء، الذي يُزعم أنه تم إنشاؤه لتقديم المساعدات الإنسانية، كان في الواقع مصدرًا عسكريًا استراتيجيًا مصممًا لدعم العدوان الإسرائيلي.
إن الوضع الإنساني المتردي في غزة يسلط الضوء على نفاق هذه الواجهة الإنسانية. حيث تتجاوز حاجة المنطقة الفعلية 700 شاحنة مساعدات، وهو مطلب لوجستي يمكن تلبيته عبر معبر رفح البري. لكن الميناء الأميركي سهّل دخول أقل من 150 شاحنة، ما يسلط الضوء على الدوافع العسكرية الخفية وراء إنشائه.
والمفارقة المهمة الأخرى هي أنّ جيش الاحتلال، الذي تدعمه الولايات المتحدة، عسكرياً وميدانياً واستخبارياً، منذ بداية الحرب، لم يتمكن مع الدعم الأميركي، بقدراتهما وتفوقهما، عسكرياً واستخبارياً وتقنياً، إلا من استعادة 4 أسرى فقط من قطاع غزة، بعد أكثر من 8 أشهر على الحرب.
وبناء على ذلك يبدو بأن عملية تحرير الرهائن لا تغير المشهد الاستراتيجي للقماومة بشكل كبير، حيث سيظل الواقع الشامل دون تغيير، إذ لاتزال إسرائيل تعيش في حالة من الإنكار، وتتصارع مع الأدلة التي لا يمكن إنكارها على إخفاقاتها الاستراتيجية. إن العمليات الجارية والمستقبلية لا تمثل سوى محاولات لإدارة تداعيات هذا الفشل المستمر.
إن حالة الارتباك وتراجع الردع التي تعيشها إسرائيل واضحة. إن أنظمة الصواريخ التي روجت لها إسرائيل لعقود من الزمن يتم الآن استهدافها بلا هوادة من حزب الله في جنوب لبنان وأجزاء مختلفة من غزة.
إن جهاز الدفاع الإسرائيلي الذي كان هائلاً في يوم من الأيام، يتعرض الآن لقصف مستمر، مما يسلط الضوء على تآكل قدرات الردع لديه. ويمتد هذا الإذلال إلى الجبهة الشمالية لفلسطين، حيث تتعرض القوة العسكرية الإسرائيلية لهزائم مستمرة.
ويؤدي السياق العالمي إلى تفاقم مأزق إسرائيل. لقد أصبح الكيان منبوذا على الساحة الدولية، مع تحول الرأي العام العالمي بشكل حاسم ضده. ولا يشير هذا التحول إلى العداء تجاه إسرائيل فحسب، بل يعكس أيضًا الدعم المتزايد للمقاومة الفلسطينية وغير الفلسطينية، مما يمثل إعادة اصطفاف استراتيجي غير مسبوق في نطاقه وكثافته. وتواجه إسرائيل الآن أحكاماً محتملة في المحاكم الدولية، بينما تكافح الولايات المتحدة لإخفاء تورطها في الفظائع المرتكبة.
ومن الأهمية بمكان أن تثير هذه العملية أسئلة جوهرية بالنسبة لإسرائيل وهي: كيف ستستعيد أسراها؟ وكيف سيتم توطين المستوطنين النازحين من الشمال؟ وكيف يمكنها استعادة قدرات الردع؟ فكيف يمكنها إعادة تأهيل سمعتها العالمية المشوهة؟ وكيف يمكنها تحقيق مظهر من مظاهر النصر واستعادة الثقة بجيشها وأجهزتها الأمنية؟
هذه الأسئلة ليست مجرد أسئلة بلاغية؛ بل هي تضرب قلب المعضلات الوجودية التي تواجهها إسرائيل. إن عدم القدرة على الإجابة على هذه الأسئلة يدل على وجود أزمة ثقة عميقة داخل المؤسسة الإسرائيلية. كما أن آليات القوة والسيطرة التقليدية التي اعتمدت عليها إسرائيل لم تعد فعالة، مما أدى إلى مأزقها الاستراتيجي.
القانون الدولي في خدمة الإجرائم الإسرائيلي-الأمريكي
القاعدة الراسخة في القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان هي أن المدنيين والمدارس والمستشفيات لا تعتبر أبدًا أهدافًا مشروعة، ولا يمكن تبرير الجرائم ضد الإنسانية التي تستهدف هؤلاء المدنيين بأي شكل من الأشكال. ومع ذلك، يبدو أن الولايات المتحدة وإسرائيل تعملان في كثير من الأحيان وفق تفسير مختلف لمفاهيم حقوق الإنسان هذه.
ومؤخراً، أدلى المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر بتصريح يبرر جرائم الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين في قطاع غزة. وأثناء تعليقه على المذبحة التي وقعت في مدرسة تؤوي النازحين في النصيرات في غزة، أشار ميللر إلى أن مقاتلي حماس استخدموا الموقع، مما يشير إلى أن وجود المسلحين يجعل المدنيين بالداخل أهدافًا مشروعة.
ويسلط هذا الموقف الضوء بشكل صارخ على الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان من جانب إسرائيل والولايات المتحدة، والتي تتم مع الإفلات الواضح من العقاب. ويتجلى انعدام المساءلة بشكل أكبر في قيام الكونغرس الأمريكي بسن قوانين لحماية القادة العسكريين والسياسيين الإسرائيليين من إجراءات المحكمة الجنائية الدولية. وهذه هي نفس الدولة الأمريكية المسؤولة عن المجازر في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن، والتي غالبا ما تكون أفعالها محمية من التدقيق من قبل المحاكم الدولية بسبب تهديدها المستمر بمعاقبة هذه المحاكم ووقف تمويلها ولذلك فأصبح القانون الدولي مفصلاً على قياس الولايات المتحدة وإسرائيل وحجم جرائمهم في العالم.
وقد أظهرت إسرائيل أيضاً نمطاً ثابتاً من انتهاكات حقوق الإنسان. فبعد توقيع اتفاقية السلام الإبراهيمية بين الإمارات وإسرائيل، تم الكشف عن توقيع مركز الأمن السيبراني الإماراتي وشركة NSO Holding الإسرائيلية اتفاقيات تسمح بمراقبة واسعة النطاق. وتم استخدام برنامج التجسس Pegasus، الذي طورته شركة NSO، لجمع معلومات من المواطنين والناشطين الإماراتيين، واختراق هواتفهم المحمولة وأجهزة الكمبيوتر الشخصية.
وقد أدت مثل هذه الإجراءات لقمع المعارضة إلى تشويه سمعة الإمارات العربية المتحدة على المستوى الدولي، فيما يتعلق بحقوق الإنسان. وبحسب تقرير صدر عام 2023، احتلت الإمارات المركز 145 من بين 180 دولة في مؤشر حرية الصحافة والتعبير والرأي، متراجعة بشكل كبير عن المركز 119 في عام 2019.
وعلى الرغم من كونها من الدول الموقعة على الميثاق العربي لحقوق الإنسان، الذي ينص على توفير الظروف الملائمة لحرية التعبير والرأي، فقد فرضت الإمارات العربية المتحدة ضوابط صارمة منذ عام 2011. وقد تم سجن العديد من النشطاء الاجتماعيين بسبب انتقادهم للحكومة، ولايزال بعضهم يقبع في سجون أبوظبي رغم انتهاء محكومياتهم. ولا يزال أكثر من 87 سجيناً، متهمين بمحاولة الإطاحة بالحكومة من خلال تشكيل جماعات إرهابية، محتجزين حتى بعد قضاء فترات محكوميتهم.
ويبدو أن منظور حقوق الإنسان من وجهة النظر الأميركية الإسرائيلية يذكرنا بشكل مأساوي بالفظائع التاريخية مثل مذابح صبرا وشاتيلا، والقنابل النووية الأمريكية على هيروشيما وناغازاكي.
ختاماً، وفي هذا المنعطف الحرج، يجب على العالم ألا يغض الطرف عن المعاناة في غزة. إن الضمير الجماعي للمجتمع الدولي يتطلب العمل والمساءلة والالتزام الثابت بدعم حقوق الإنسان والعدالة للجميع.
وينبغي للدروس المستفادة من المآسي الأخيرة أن تكون بمثابة حافز لإحداث تغيير حقيقي، مما يمهد الطريق لمستقبل أكثر إنصافا وسلاما في المنطقة. إن الشراكة بين الولايات المتحدة وإسرائيل تكشف الآن عن نفسها باعتبارها قناة لاستمرار العنف والقمع والجرائم ضد الإنسانية. ومن خلال إخفاء الطموحات العسكرية تحت ستار المساعدات الإنسانية، لم تخون هذه الأعمال ثقة المجتمع الدولي فحسب، بل أدت أيضًا إلى تفاقم معاناة أولئك الذين وقعوا في مرمى النيران الإسرائيلية والأمريكية.
د. حامد أبو العز - كاتب فلسطيني