الحمد لله المعين لاوليائه على هول المطلع والمنقذ للاجئين اليه من ضيق المضجع، الرؤوف بعباده الغفور الرحيم.
والصلاة والسلام على سادة اوليائه الداعين عباده للتخلق بأخلاقه والنجاة من المعيشة الضنكى، محمد وآله الطاهرين.
السلام عليكم احباءنا ورحمة الله وبركاته واهلاً بكم ومرحباً في الحلقة الخامسة والثلاثين من حلقات هذا البرنامج.
نستعرض في مطلعها فقراتها الاساسية:
في الأولى ننقل طائفة من الاحاديث الشريفة التي تهدينا الى حقيقة ضغطة القبر وسبل النجاة منها.
وفي الثانية قصة من سير الصالحين في الاستعداد للموت.
وفي الثالثة يجيب خبير البرنامج عن سؤال بشأن سر خلق الله لمن يعصيه ويكون مصيره العذاب وهو غني عن عذابه.
وفي الفقرة الرابعة رواية ادبية عن حسينية جهاد بهلول الواعظ.
*******
ايها الاخوة والأخوات، ها نحن نفي لكم بما وعدناكم في الحلقة السابقة من نقل الاحاديث الشريفة التي تعرفنا بحقيقة ضغطة القبر وسبل النجاة منها.
ونردف هذه الاحاديث بتوضيح من الشيخ البهائي (رضوان الله عليه) وذلك في الفقرة التالية وعنوانها هو:
ضغطة القبر ومساوي الأخلاق
روى الشيخ البرقي (رضوان الله عليه) في كتاب المحاسن وغيره في قصة دفن الصحابي سعد بن معاذ ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: انه ليس من مؤمن الا وله ضمة.
وروى الشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) في كتابي ثواب الأعمال والأمالي مسنداً عن الصادق عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انه قال: ضغطة القبر للمؤمن كفارة لما كان منه من تضييع النعم.
ومعلوم ان ضغطة القبر التي نزلت بالصحابي سعد بن معاذ وكما اخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الحديث المشهور، كان سببها سوء خلقه مع عياله وتكلمه معهم بلهجة عنيفة.
اذن فالواضح من الاحاديث النبوية المتقدمة ان ضغطة القبر يشمل الجميع لأنها الصورة او الحالة الملكوتية او البرزخية لما في الانسان من الصفات المذمومة والأخلاق التي لا يرضاها الله - عزوجل- لعباده.
وهذا يعني ان شدة ضغطة القبر تتناسب مع ما يتبقى في الانسان من هذه الاخلاق المذمومة حتى لو كان مؤمنا، ولذلك فان النجاة او تخفيف شدة ضغطة القبر انما يكونان في السعي للتخلي من مساويء الاخلاق واجتناب استخدام نعم الله - عزوجل- فيما لا يرضيه، وهذه الحقيقة يشير اليها بوضوح حديث مروي عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) سنتلوه لكم بعد قليل.
روى الشيخ الطوسي في أماليه عن الامام علي (عليه السلام) انه قال في كتاب له الى محمد بن ابي بكر (رضوان الله عليه): «... ان الكافر اذا دفن قالت له الارض: لامرحباً بك ولا اهلاً، لقد كنت ابغض من يمشي على ظهري، ... فتضمه حتى تلتقي اضلاعه وان المعيشة الضنك التي حذر الله منها عدوه [هي] عذاب القبر، انه يسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعين تنيناً [والتنين هو الافعى العظيمة]، فينهشن لحمه ويكسرن عظمه يترددن عليه كذلك الى يوم يبعث».
وقد قال الشيخ البهائي (رحمه الله) في تعليقه على هذا الحديث: قال بعض اصحاب الحال: ولا ينبغي ان يتعجب من التخصيص بهذا العدد فلعل عدد هذه الحيات بقدر عدد الصفات المذمومة من الكبر والرياء والحسد والحقد وسائر الاخلاق والملكات الردية، فانها تتشعب وتتنوع انواعاً كثيرة، وهي بعينها تنقلب حيات في تلك النشأة.
والذي يستفاد من الشطر الاول من هذا الحديث الشريف واحاديث اخرى ان ثمة استثناء لبعض المؤمنين من جميع اشكال ضغطة القبر وهذا الموضوع سنتناوله بعون الله في الحلقة المقبلة بأذن الله.
*******
اما الآن فمع حادثة مقتبسة من سيرة الصالحين فيها التفاتة جميلة بشأن الاستعداد لرحلة عالم البرزخ:
من رحمة الله - عزوجل- بعباده انه اخفى عنهم اوان حلول الأجل والانتقال من دار الدنيا الى دار الآخرة، لكي يكون ذلك لهم دافعاً الى العمل للآخرة واعمارها بصالحات الأعمال والباقيات الصالحات بروح من يرى نفسه وكأنه يموت غداً كما ورد في وصية مولانا الحسن المجتبى (عليه السلام).
ومن رحماته - تبارك وتعالى- الخاصة بالمؤمنين هو ان يلهمهم بقرب حلول الأجل لكي يكثفوا من استعدادهم للموت، ونماذج ذلك كثيرة منها الحادثة التي نقلها السيد المحدث نعمة الله الجزائري صاحب كتاب الانوار النعمانية بشأن العارف السيد علي خان مؤلف كتاب رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين (عليه السلام).
فقد ذكر السيد الجزائري انه زار السيد علي خان في عامه الأخير فرأى الشيب ظاهراً على لحيته الكريمة فسأله: لماذا لا تخضبها كما جرت بذلك السنة وكنت تلتزم بذلك من قبل.
اجاب السيد علي خان: لقد اردت كتابة تفسير كامل للقرآن الكريم فتفألت بكتاب الله فخرج لي قوله تعالى «وان له عندنا لزلفى وحسن مآب»، فعلمت باقتراب اجلي، فبدأت بكتابة تفسير موجز وتركت الخضاب لكي القى الله بلحية بيضاء.
وبالفعل فقد توفي السيد بعد عام من ذلك (رضوان الله عليه) وهو في اجواء القرآن الكريم وتفسيره فطوبى له وحسن مآب.
ولقد صدق الشاعر في حكمته البليغة حيث يقول:
اذا هبت رياحك فأغتنمها
فعقبى كل خافقة سكون
ولا تغفل عن الأحسان تيهاً
ولا تدري السكون متى يكون
*******
نترككم الآن مع اجابات خبير البرنامج سماحة الشيخ محمد السند لكي عن بعض الاسئلة الواردة للبرنامج.
المحاور: سماحة الشيخ احدى الرسائل التي وصلتنا عبر البريد الالكتروني من مجموعة من الاخوة فيها سؤالان، الاول مضمونه، الخصه بما يلي القرآن الكريم ينص بأن اهل الجنة لهم فيها ما تشتهي انفسهم فإذا ارادوا شيئاً حضر عندهم فوراً فهل ان هذا الامر يمكن ان يتحقق في عالم الدنيا ايضاً طبق قانون عبدي اطعني تكون مثلي اقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون؟
الشيخ محمد السند: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الاطهرين، في الحقيقة هناك عدة تعاليم في المعارف الواردة من القرآن الكريم وسنة اهل بيته تفيدان المؤمن اذا ارتقى في درجاته من الكمال والايمان يتصاعد الى بعض الشؤون والحالات الاخروية والجناوية كما ورد مثلاً هذا التعبير النبوي «موتوا قبل ان تموتوا» مما يدل على ان الانسان يمكن ان يتجاوز الكثير من المراحل ويتعايش مع الكثير من النشآت اللاحقة وهو في سيره وسلوكه في رعويت تقواه واعماله وخواطره وسلوكه، فإذا بلغ تلك المنازل حينئذ تكون له نوع من الشؤون والكرامات والحبوات والعطيات الالهية، طبعاً تلك العطيات ليس من الضروري ان تتجسم بمادة الدنيا وقد يتعايش معها حتى وهي في نشأتها في عالمها يتعايش معها يدركها يتذوقها ويشهدها وتكون شهداً له، وهو على اية حال في ضمن قوة درجات روحيه وكمالاتها وبالتالي يتمكن من هذا المقام ولهم ما يشتهون نعم.
المحاور: سماحة الشيخ هذا فيما يرتبط في داخل اطر عالم الدنيا يعني تكون كن فيكون في الجنة وفي عالم الآخرة اسمى مرتبة من عالم الدنيا.
الشيخ محمد السند: هو بالطبع الحال كذلك لكن ليس المراد من وصول المؤمن او المتقي او اهل اليقين او اهل الاخلاص الى تلك الدرجات من ان ينوجد لهم مما يشاؤون من مشيئة واشتها في ظل المادة الدنيوية لان طبيعة المادة الدنيوية ليست هي قابلة للكمالات الاخروية اذن من غير الممكن ان تتحقق تلك المشتهيات وتنجز وهي مادتها وظرفها ذلك الصفاء في مادة الاخرة وجسمانية عالم الآخرة الا ان تعايش المؤمن الذي وصل الى درجات عالية كالمعصوم فالحقيقة المعصومين هم في مشهدهم الكثير من الشؤون من عالم الآخرة يخبرون عنها ونوع تعايش معها.
المحاور: سماحة الشيخ على ذكركم للمعصومين (عليهم السلام) السؤال الثاني في رسالة هذه المجموعة من الاخوة تقول هل ان ائمة اهل البيت (عليهم السلام) تتسع حياتهم لتشمل منازل الدنيا ظاهراً الاطلاع على منازل الدنيا والآخرة والبرزخ؟
الشيخ محمد السند: بالطبع ان المؤمن الذي راعى سلوك التقوى وسلوك اليقين وسلوك الاخلاص يصل الى درجات من مشاهدات عديدة لشؤون البرزخ او بعض شؤون البرزخ او بعض شؤون الآخرة فكيف بك بمقامات المعصومين، الحقيقة كل انسان مؤمن حتى وان قلة درجة ايمانه وكل بشر وحتى ان انحرف به السبيل الى سبيل الغي هو في الحقيقة طبيعة جهاز المركب من وجود الانسان وبناء وجوده ذو طبقات وذو عوالم، شعر بها الانسان او غفل عنها، الانسان بحسب جهازه الوجودي هو موجود ذو نشآت وفي آن واحد، وهو كما يعيش ويدبر معيشه ذوية هو الآن في حالة تعايش مع المقام والمنزل البرزخي الذي هو فيه، وكذلك هو في مقام تعايش مع منزل الآخرة وان لم يشعر به فأذن حالة التعايش الوجودي مع طبقات وجود الانسان مع هذه العوالم امر ثابت لكل وانما الذي يختلف بين المعصومين وغيرهم او من هو دون المعصومين وغيرهم هو مشاهدة تلك العوالم وبالطبع ان المعصوم لما اوتي من علم لدني وطهارة وصفاء فائق يشاهد مثل تلك العوالم في مراتب اكثر وتستحضرني رواية، مر الامام الصادق (عليه السلام) في طريقه من المدينة المنورة الى مكة فأستوقفه امر فأخذ من حواليه يسائل الامام الصادق عما مثلاً كدر صفاء وجهه الشريف وخطر بباله فقال (عليه السلام) اني سمعت صراخ وعوال قتله الحسين وكيف هم يعذبون وعلى اية حال وما ينالهم من انواع العذاب فقالوا له وهل يمكنك العيش مع سماع ومشاهدة كل ذلك فقال ان لنا قلوب غير قلوبكم ومسامع غير مسامعكم، ولو كانوا هم بما اوتوا من الله قابيلتهم محدودة كما هي الحال في ارواحنا لما ستطاعوا ان ينبؤا عن آثار الاعمال وعن طريق الشريعة وعن طريق منهاج الاحكام وكيف اثارها الاخروية، الحقيقة وراثة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) كما يحدث النبي عن اثار وخواص وعقبى ونتائج الاعمال يشاهدها (صلى الله عليه وآله) ويشاهدون اهل بيته وراثة علميه منه، كيف هي الآن تتجسد وتتولد منها نتائج في البرزخ والاخرة وفي الصراط وفي عرصات العوالم الاخرى.
المحاور: سماحة الشيخ محمد السند شكراً لكم وشكراً لكم احباءنا والى فقرات البرنامج.
*******
نتابع تقديم هذه الحلقة من برنامج عوالم ومنازل ونقدم لكم الآن فقرة ادبية جميلة تحمل عنوان:
حسينية جهاد بهلول الواعظ
روي عن عبد الله بن خالد قال: غزا معنا ابو وهيب بهلول في الصائفة- اي في الصيف الحار، وكانت على عنقه قربة ماء، فلما حمي وطيس الحرب القى القربة وهو يقول معاتباً لها.
ويلك يا قربة حتى متى والى متى لا تفارقيني وكم بالمنى تخدعيني، هذا يوم فراقك ان شاء الله.
وكأن بهلول قد تذكر عطش سيد الشهداء الحسين بن علي (عليه السلام) واصحابه يوم كربلاء وهم يجاهدون اعداء الله فاحب مواساتهم، على اي حال يقول الراوي عبد الله بن خالد: ثم رمى بهلول بطرفه نحو السماء وهو يقول مناجياً ربه الجليل - تبارك وتعالى-:
وعزتك ما قتالي اعداءك شوقاً الى نعيم الجنة وان كان مقيماً ولاهرباً من النار وان كان عذابها اليما ولكني بحبي اياك يا حبيب اوليائه.
وكانه (رحمه الله) كان يجتهد في تمثل حال سيد شباب اهل الجنة الحسين (عليه السلام) الذي قالوا على لسان حاله يوم كربلاء مناجياً ربه جل جلاله.
تركت الناس طراً في هواكا
وايتمت العيال لكي اراكا
فلو قطعتني في الحرب ارباً
لما مال الفؤاد الى سواكا
ولذلك ذكر المؤرخون ان سيد الشهداء الحسين (سلام الله عليه) كان يزداد وجهه اشراقاً وبشراً كلما اقترب وقت مصرعه رغم عظمة المصائب التي المت به والتي لا تطيق حملها الجبال الرواسي لكنه (عليه السلام) كان يراها هينة في قبال رضا الله ويقول «هون ما نزل بي انه بعين الله».
نرجع اعزاءنا الى بهلول المتأسي بسيد الشهداء (عليه السلام)، فقد تابع عبد الله بن خالد روايته السالفة قائلاً ان بهلول بعدما ناجى الله - عزوجل- بتلك العبارات انشأ يقول:
ما قدر نفسي في رضى مولاها
ان قتلت او قاتلت اعداها
قالت لمولاها ومن مولاها
ومن الى جنته هداها
ما رغبتي الجنة ان اراها
ورهبتي النار بأن اصلاها
لكنني عبد احب الله
وبقي بهلول يقاتل اعداء الله ثم رجع يضحك وهو يقول مخاطباً الجنة:
مالك جئنا فأبعدي يا خاسرة
عني الى دار الخلود الزاهره
لله جئنا فأغربي يا قاصره
يقول الراوي عبد الله بن خالد: ثم غاب عني، فلحقته وبه ضربات مثخنة فقلت له: ابشر يا أبا وهيب بالجنة، فقال: اسكت، ما من اجلها قاتلت ولكن لأؤدي بعض حقه.
نسأل الله لنا ولكم ان يرزقنا حبه وحب من يحبه وحب كل عمل يقربنا اليه ببركة التمسك بولاية محمد وآله الطاهرين. اللهم امين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*******