تختلف المعاجم هل يعني اسم "غزة" الفينيقي الأصل المنعة أو القوة أو الثروة أو التميّز؟ هي بلا شك عنوان للقوة ونموذج للتميّز عبر التاريخ. أهلها ثروتها الأعظم، برفضهم الأسطوري الاستسلام لـ "القدر" الإسرائيلي وبتمسّكهم بالبقاء بغزة، رغم خطط تهجيرهم منها إلى سيناء عبر السنوات. يموتون هم وهي لا تموت.. غزة تقاتل وتتوجّع وتنزف، ولا تموت.
منذ بدأت معركة "طوفان الأقصى" في الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر الحالي، بدأ الإسرائيليون ومن ورائهم حلفاؤهم في الغرب، يطرحون مشروع تهجير سكان غزة إلى سيناء المصرية، لكن هذا الطرح ليس جديداً، بل هو مشروع قديم يتجدّد، عمل عليه الإسرائيلي عدة مرات سابقاً وبأشكال متعددة، ولكنه لم يجد مجالاً للتنفيذ حينها، وكان مصيره الفشل كما حدث هذه الأيام.
ديموغرافيا غزة منذ 75 عاماً
كانت غزة لواءً إدارياً (سنجق) في حقبة الدولة العثمانية وبعدها خلال الانتداب البريطاني، يضم قضاءي غزة وبئر السبع. ومع احتلال فلسطين عام 1948 وسيطرة العصابات الصهيونية على قضاء بئر السبع والعديد من قرى قضاء غزة، نزح حينها نحو 300 ألف فلسطيني من قرى غزة واللد إلى القطاع الذي كان يسكنه نحو 90 ألف فلسطيني. وبفعل الاحتلال، تقلّصت مساحة القطاع إلى 365 كلم2 تقريباً وبات تحت الإدارة العسكرية المصرية حتى عام 1967.
سكن اللاجئون في 8 مخيمات في القطاع هي جباليا، ورفح، والشاطئ، والشابورة، ودير البلح، والمغازي، والنصيرات، والبريج. وتكاثروا منذ 75 عاماً حتى أصبحوا 1.4 مليون لاجئ بحسب التقديرات.
السنة الأولى من اللجوء كانت قاسية وصعبة جداً، كانت ظروف الحياة مهينة وغير إنسانية، وفق الصحافي الفلسطيني حلمي موسى، تعرّض اللاجئون لمعاملة سيئة فقرّر كثر منهم مواصلة المسير واخترقوا الحدود المصرية وصولاً إلى قناة السويس. هناك جرى تجميعهم في معسكرات، ولكنّ مصر أعادتهم إلى حدود معبر رفح بعد ازدياد أعدادهم، وهذا ما يفسّر أن مخيم رفح كان أكبر مخيمات القطاع حتى العام 1967.
تهجير فلسطينيي غزة إلى سيناء: مخطط قديم يتجدّد
عبر السنوات، كان الاحتلال يحاول تهجير سكان القطاع إلى سيناء بالتحديد. وما قاله داني ايالون، نائب وزير الخارجية الإسرائيلي السابق، أخيراً ليس بجديد أبداً على أدبيات السياسة الإسرائيلية. بل هو قديم ومتجذّر.
فمنذ النكبة، قال بن غورويون، أول رئيس للوزراء في "إسرائيل"، إنه سيعمل على أن لا يظل العرب "هنا" وأنه سيبذل قصارى جهده لجعلهم ينتقلون إلى دول عربية. مذاك كان الإسرائيليون يعرفون أن بقاء الفلسطينيين في أرضهم هو تهديد لأمن "الدولة" المعلنة حديثاً. وعلى مدار السنوات صيغت العديد من المقترحات (وهي في الحقيقة خطط لإعادة توطين فلسطينيي غزة في سيناء) وطرحت ورفضت وأعيد طرحها مرة من قبل الإسرائيليين ومرة من قبل الأميركيين.
وخلال لقاء الرئيس الأميركي جو بايدن مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نوقش إجلاء الفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر، وتحدّثت تقارير أميركية عن محادثات يجريها البيت الأبيض مع دول أخرى بغية تنفيذها على الأرض.
ريتشارد هيشت، متحدث عسكري إسرائيلي، نصح قبل أيام الفلسطينيين الفارين من غارات الاحتلال الجوية بالتوجّه إلى سيناء، مؤكداً أن معبر رفح سيكون مفتوحاً لمن يود المغادرة. ولكن يبدو أن "الجيش" الاسرائيلي قرّر قتل أهل غزة بالكامل من دون منحهم أي فرصة للنجاة حتى، إذ أغلق معبر رفح بعد تصريحات هيشت معلناً أن لا نية "لتوجيه" أهل غزة للخروج الى مصر عبر هذا المعبر، وهو منفذ القطاع الوحيد على العالم بعد إغلاق الاحتلال معبري إيرز وكرم أبو سالم على إثر 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
خطط التهجير إلى سيناء
خطة 1951
رصدت الولايات المتحدة مبلغ 200 مليون دولار عام 1951 كميزانية لإعادة توطين اللاجئين الفلسطينين حيث هجّروا. قادت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينين "الأونروا" هذا المشروع، وكان رئيسها الثاني جون بلاندفورد يروّج لإعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين في الأراضي التي نزحوا إليها، ونقل سكان غزة الى سيناء مقابل ملايين الدولارات للحكومة المصرية. وافقت الحكومة المصرية في عهد الملكية على المشروع على أن ينتقل اللاجئون الفلسطينيون إلى سيناء مع نهاية عام 1953.
وقد اتفقت حكومة مصر آنذاك مع الأونروا على إقامة مشاريع سكنية واقتصادية للاجئين على مساحة 250 فداناً. ووِجه المشروع بمعارضة شعبية مصرية كبيرة،ما أجبر القاهرة على التراجع، ولا سيما بعد وصول الضباط الأحرار إلى السلطة عام 1952.
خطة 1967
بعد احتلال "إسرائيل" لقطاع غزة عام 1967، شجّعت السلطات الفلسطينيين على الهجرة، ولكنها أجبرت المسافرين من غزة على ترك بطاقات الهوية وتوقيع وثائق تؤكّد مغادرتهم بإرادتهم. كذلك اشترط الاحتلال عودة المسافرين بالحصول على تصريح من السلطات العسكرية.
بالنتيجة، ألغى الاحتلال الاعتراف بنحو 42 ألف فلسطيني من سكان غزة، بزعم تجاوز فترة الإقامة المسموح بها في الخارج، بعض هؤلاء ما زالوا يعيشون خارج فلسطين ولم يتمكّنوا من العودة إلى غزة بموجب قانون لمّ الشمل الذي أُوقف العمل فيه عام 2000.
خطة 1970
عام 1970، حاول قائد "الجيش" الإسرائيلي آنذاك، أرئيل شارون، تفريغ قطاع غزة من سكانه الذين قارب عددهم النصف مليون شخص. نُقلت مئات العائلات الفلسطينية في حافلات عسكرية إلى سيناء التي كانت في حينه تحت الاحتلال الإسرائيلي. تضمّنت خطة شارون منح تصاريح للفلسطينيين الراغبين في مغادرة غزة للدراسة والعمل إلى مصر وتقديم حوافز مالية لهم.
كان هدف شارون تغيير تركيبة سكان القطاع ديموغرافياً وتخفيف الاكتظاظ السكاني فيه. ولكن سكان غزة كانوا يعودون إلى القطاع بعد إنهاء دراستهم وعقود عملهم ما أفشل الخطة فعلياً.
خطة 2000
قدّم رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي اللواء الاحتياط غيورا ايلاند مشروعاً باسم "البدائل الإقليمية لفكرة دولتين لشعبين". المشروع افترض أن حل القضية الفلسطينية ليس مسؤولية "إسرائيل" وحدها، بل مسؤولية الدول العربية الاثنتين والعشرين.
ايلاند اقترح أن تتنازل مصر عن نحو 720 كيلومتراً مربعاً من أراضي سيناء، أي ضعف مساحة قطاع غزة. المقترح كان أن تتألف الأراضي المتنازل عنها من مستطيل طول ضلعه الأول 24 كيلومتراً، يمتد على طول الساحل من مدينة رفح إلى حدود مدينة العريش في سيناء، والضلع الثاني بطول 30 كيلومتراً من غرب معبر كرم أبو سالم ويمتد جنوباً بالتوازي مع الحدود المصرية الإسرائيلية. كان المقابل أن يتنازل الفلسطينيون عن المساحة المقترحة نفسها في سيناء من أراضي الضفة الغربية لتضم إلى "إسرائيل". وأن تحصل مصر على مساحة معادلة للمنطقة المتنازل عنها في سيناء في منطقة وادي فيران في جنوب غرب النقب الحدودية، وأن تُمنح القاهرة امتيازات اقتصادية وأمنية ودعماً دولياً.
حاول الإسرائيليون تسويق الخطة لكن توقيتها مع اندلاع انتفاضة الأقصى دفنها وأنهى التداول بها حتى.
خطة 2004
عام 2004، اقترح رئيس الجامعة العبرية يوشع بن آريه إقامة وطن بديل للفلسطينيين في سيناء، استناداً إلى مبدأ تبادل الأراضي بين مصر و"إسرائيل" وفلسطين، الذي تناوله ايلاند في خطته عام 2000.
هذه المرة اقترح بن اريه تخصيص أراضٍ في منطقة العريش الساحلية شمال سيناء للدولة الفلسطينية. على أن يتمّ إنشاء ميناء بحري عميق وخط سكك حديد دولي لكن بعيداً عن "إسرائيل"، ومدينة كبيرة تحتضن السكان، وبنية تحتية قوية، ومحطة لتوليد الكهرباء، ومشروع لتحلية المياه. على أن تحصل مصر على أراضٍ في صحراء النقب مع تقديم ضمانات أمنية وسياسية بعدم بناء مستوطنات في المنطقة الحدودية مع مصر، والسماح لمصر بإنشاء شبكة طرق سريعة وسكك حديدية وأنابيب لنقل النفط والغاز الطبيعي.
بعد عام من وضع خطة بن اريه موضع بحث ونقاش، نفّذت خطة فك الارتباط من غزة وفكّكت 21 مستوطنة من القطاع، ولاحقاً أجريت الانتخابات التشريعية الفلسطينية واكتسحت فيها حركة حماس المجلس التشريعي ولا سيما في قطاع غزة، فظلت الخطة حبراً على ورق.
خطة 2018
"صفقة القرن" التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب حملت آخر مشاريع إعادة توطين الفلسطينيين في سيناء. لم تكن الخطة مختلفة كثيراً عما سبق مناقشته في خطتي العام 2000 و 2004، أي تبادل الأراضي مع تأسيس دولة فلسطينية في سيناء وإعطاء مصر امتيازات اقتصادية وأمنية.
وبرغم التأييد الدولي للصفقة، ولا سيما بعد توافق ترامب مع مصر والسعودية و"إسرائيل" حول تفاصيل كثيرة، لم يكتب للخطة النجاح بعد فشل ترامب في الانتخابات الرئاسية لدورة ثانية.
لا يبتلع البحر غزة!
كانت تلك أمنية رئيس وزراء الاحتلال إسحاق رابين، ولكنها لم تتحقّق. فما شهده العالم من تمسّك أسطوري للفلسطينيين بالبقاء في قطاع غزة برغم العدوان الإسرائيلي المستمر عليهم منذ أكثر من أسبوعين، يؤكد أن هذا الشعب مستعد للموت على أن يتكرّر ما حدث في نكبة العام 1948.
الفلسطينيون يرفضون مغادرة القطاع المحاصر بالنار، لا بل عاد مئات الآلاف منهم ممن غادروا في الأيام الأولى للعدوان شمال القطاع إلى منازلهم خشية أن يُعدّ إخلاؤهم تخلياً عن قضية فلسطين الأساس وهي عودة اللاجئين.
غزة لا تموت، ولا يبتلعها البحر، ففيها شعب تعلّم دروس وجوده كاملة: المقاومة والصمود والحفاظ على حقه في فلسطين حتى الرمق الأخير.
وحين تهدأ أصوات الصواريخ ومدافع الحقد، ستقوم غزة من نومها القسري الذي يظنه الحاقدون موتاً، ستلد مقاتلين جدداً، وتخبز من لحمها الحي كرامة تلقّمها لأبنائها مع أبجدية المقاومة. ستدفن الشهداء وتبكي عليهم ثم تبني مع الناجين بيوتاً بدل التي دُمّرت، ستغسل همومها في البحر وستبتسم ساخرة من الغزاة والمحتلين والمخططين.
لا يفهمها ولا يعرفها أصلاً هؤلاء الغرباء، لا بأس، فهم ليسوا أبناء الأرض والبحر والنور، لا يعرفون أن غزة كانت منذ كان البحر، وغزة ستبقى على خاصرة البحر حتى النصر، أي حتى تزول "إسرائيل"..