ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ عليه السلام أنه قال: "خَيرُ الْبِرِّ ما وَصَلَ إِلى الْمُحْتاجِ".
أن تكون من أهل البِرِّ والإحسان فتلك نعمة كبرى ينعم الله بها عليك، وتوفيق عظيم وفقك الله له، ولولا أنه تعالى رآك جديراً بهذا لما أنعم عليك به، إنه ليجتذب إليه ببرك وإحسانك، والله يُحِبُّ المُحسنين.
وإن من أعظم التوفيق أن يصل بِرُّك إلى المحتاج الذي يستحقه، فتكون كمن يسقي العطشان الظمآن، ويطعم الجائع اللهفان، أما إن برَرت غير المحتاج فأنت كمن يسقى المرتوي ويطعم الشبعان، فتكون منعت بِرَّك عن غير المستحق، وأعطيته لمن لا يستحق، وفي ذلك هدر للمال والجهد فيغير موضعه، وإبقاء للحاجة دون أن تقضى.
مما تقدم يتبين أن على المرء أن يدقق في مواضع بِرِّه فيختارها بدقة، فقد رُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: "أفضَلُ البِرِّ ما أُصِيْبَ بِهِ أَهْلُهُ".
وأن يكون المعيار في ذلك الاستحقاق، مع مراعاة الأولى به، وهم الأكثر حاجة، يُستفاد ذلك من قوله تعالى: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"﴿60/ التوبة﴾*.
والأكثر قُرباً ويستفاد ذلك من قوله تعالى: "...وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ"﴿75/ الأنفال﴾*.
فإذا استوعب بِرُّه الأصناف التي بينتها الآيتان الكريمتان وأحبَّ أن يتوسَّع في بِرِّه فله أن يتجاوزها تلك الدائرة إلى من هم خارجها.
وقد بيَّنت الروايات الشريفة أصنافاً من الناس الذين يجب أو يحسن الاهتمام ببرهم، وأولهم الوالدان، ثم الأولاد والزوج، ثم الأخوة، ثم الأرحام، ثم الجيران، ثم أهل البلدة أو الحَيِّ وهكذا.
وخصَّت الروايات الشريفة الوالدين بضرورة برهما حَيَّينِ كانا أم ميِّتَين، وقدَّمت الأمَّ على الأب فقد رُوِيَ عن الإمام جعر الصادق (ع) أنه قال: "جاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله فَقالَ: يا رَسولَ اللّهِ مَن أبَرُّ؟ قالَ: اُمَّكَ. قالَ: ثُمَّ مَن؟ قالَ: اُمَّكَ. قالَ: ثُمَّ مَن؟ قالَ: اُمَّكَ. قالَ: ثُمَّ مَن؟ قالَ: أباكَ".
وخَصَّت الأبرار أيضاً، وهم المُتَوسِعون في البِرِّ، فهؤلاء يجب أن يبرُّهم البارُّ من الناس لاستحقاقهم ذلك، وملاقاتهم بالبِرِّ، فقد رُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين (ع) قوله: "أفضَلُ البِرِّ ما أُصِيبَ بِهِ الأَبرارُ"*.
ومن هؤلاء الشخص الذي يبّرُّك فيجب عليك أن تخصَّه بالبِرِّ على قاعدة مجازاة الإحسان بالإحسان، أو الشخص الذي يشكر لك بِرَّك به، قال الإمام أمير المؤمنين (ع): "أحَقُّ مَن بَرِرتَ، مَن لا يَغفُلُ بِرَّكَ".
وخَصَّت الروايات الشريفة الأيتام كذلك، ومعلوم كم تحتاج هذه الشريحة الاجتماعية إلى البِرِّ والإحسان، سواء كان ذلك بالمال، أم بالتفقُّد، أم بالاهتمام، أم بالتربية، أم بالخدمة، فقد رُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه قال: "مِنْ أفضَلِ البِرِّ، بِرُّ الأَيتامِ".
والأرحام كذلك وهم الدائرة الأقرب للشخص والتي تضُمُّ أخوته، وأجداده وجداته وأعمامه وعمّاته، وأخواله وخالاته وهكذا، رُوِيَ عن الإمام أمير المؤمنين قوله: "أوفَرُ البِرِّ صِلَةُ الرَّحِمِ".
ومن هؤلاء الذين دعت الروايات الشريفة إلى بِرِّهم الأموات فهم أحوج ما يكونون إلى البِرِّ، ويتجسَّد ذلك بالدعاء والاستغفار لهم، والتصّدُّق عنهم، وإهدائهم ثواب قراءة القرآن الكريم، وسورة الفاتحة المباركة، وقضاء ما فاتهم من صلاة وصيام، وأداء ما في ذمتهم من حقوق لله وللناس، فقد رُوِيَ عن رسول الله (ص) أنه قال: "لا بِرَّ أفضَلُ مِن بِرِّ أهلِ القُبورِ، ولا يَصِلُ أهلَ القُبورِ إلّا مُؤمِنٌ".
ومن هؤلاء أصدقاء الأب، وأن بِرَّهم من أَبَرِّ البِّرِّ، وهذا أمر لافِتٌ للنظر، ويستحقُّ التوَقُّف عنده طويلاً، فقد رُوِيَ عن رسول الله (ص) أنه قال: "إنَّ أبَرَّ البِرِّ، أن يَصِلَ الرَّجُلُ أهلَ وُدِّ أبيهِ"