البث المباشر

أفضل شُعب الإيمان وأدناها

السبت 12 نوفمبر 2022 - 17:07 بتوقيت طهران
أفضل شُعب الإيمان وأدناها

روي عن رسول الله (ص) قوله: «الإيمانُ بضعٌ وسبعونَ شعبةً»، فهو يمتدّ في كلّ حياة الإنسان؛ في أوضاعها الفردية والاجتماعية، وفي كلماته، وفي أفعاله وعلاقاته، «فأفضلُها» أي أفضل هذه الشّعب: «قولُ لا إلهَ إلَّا الله».

لأنَّ هذه الكلمة تمثِّل انطلاقة الإيمان في آفاق التَّوحيد؛ لأنّها تجعل الإنسان يتأمَّل في كلِّ الواقع الإنساني، ويفكِّر فيه ويتابعه، في كلِّ ما يواجه به النَّاس أصحاب المواقع الكبيرة التي يخضعون لها، من حيث تصوّرهم لهم في موقع الآلهة.

وهذا ما نقله التَّاريخ عن فرعون الَّذي كان يدَّعي الربوبيَّة، وذلك على لسان القرآن الكريم: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي}(الزّخرف: 51)، فقد كان فرعون يعتبر أنَّ ما يملكه من الثَّروات مبرِّر لأن يكون هو الإله، ولذا كان يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ}(النازعات: 24)، وقد قال عنه تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ}(الزخرف: 54)، حيث كان يعمل على أن يستغلَّ هذه الثَّروة والسلطة ليجعل قومه يخضعون له، ويستخفّون أنفسهم أمامه، ويصدِّقون أنَّه الإله، وخصوصاً أنهم لا يملكون الثقافة العميقة الواسعة في مفهومهم للإله.

وكذلك كان هناك جماعة ممّن يعيشون التخلّف من خلال عبادتهم للأصنام، فكانوا يعتبرونها آلهةً، ومنهم مَن كان يعبدها بشكل مباشر، لأنهم كانوا يعتقدون أنها تمثِّل الأسرار الإلهيّة. وهذا ما كان الأنبياء يواجهونه بنقد هذه العقليَّة المتخلِّفة، فكيف يكون إلهاً من لا يسمع ولا يبصر ولا يملك أيّ حالة من حالات الوعي، كما جاء في حوار إبراهيم النبيّ (ع) مع أبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا}(مريم: 42).

إنَّ كلمة (لا إله إلا الله) توحي للإنسان بأن يقوم بجولة في كلِّ التاريخ، وبجولة في كل الواقع الذي يضمّ هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم في مواقع الآلهة أو أنصاف الآلهة، ليتصوّر كلّ هؤلاء بصورتهم الحقيقيَّة، سواء كانوا أحجاراً لا تملك أيَّ شيء من الحياة، أو كانوا أشخاصاً يملكون بعض الثَّروات أو السلطات وما إلى ذلك؛ أن يتصوَّرهم بحجمهم العادي، سواء كان هذا الحجم حجماً بشرياً في الأمور المحدودة التي يملكونها، أو حجماً حجرياً، ثمّ لينفيهم من اعتبار الألوهيّة في وجدانه الإيمانيّ، بحيث لا يمثّلون معه أيّ شيء أمام الله سبحانه وتعالى.

وهنا يندفع الإنسان، في تصوره لله سبحانه وتعالى، ليكون الله هو ربّه المطلق، المرتكزة ربوبيته على خالقيّته التي لا يشاركه فيها أحد، ورازقيّته التي ينقطع فيها العباد إليه، وقدرته غير المحدودة، وعلمه الذي لا حدّ له، وكل صفاته التي لا يدانيه فيها أحد.

ونشير هنا إلى الدور الذي تضطلع به سورة الإخلاص بالنِّسبة إلى تركيز مسألة التوحيد في وجدان الإنسان، وذلك من خلال عفويّتها وبساطتها، والَّتي تنطلق في عقيدة التوحيد من عناصر الفطرة الإنسانيَّة. قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَد} الَّذي يُصمَد إليه، بمعنى: يرجَع إليه في كلّ أمور الإنسان وحوائجه، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}، فهو تعالى لا يخضع لأيِّ خصوصية من خصوصيات البشرية، فالبشر ولد من شخص آخر بعد أن كان عدماً، ويلدُ شخصاً آخر انطلاقاً من أجواء اللذّة والحاجة، ولكنَّ الله هو الموجود الأزلي الأبدي السرمدي الغنيّ، {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}(سورة الإخلاص)، أي لا يساويه أحد.

وهكذا نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى وهو يصف نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}(الشورى: 11)، ليعيش الإنسان تصوّر الألوهيَّة من خلال تصور الله، بحيث إنَّه عندما ينطلق في وجدانه في كلمة التَّوحيد، فإنَّه يتصوَّر الله من دون أن يتصوَّر معه أحداً في أيّ جانب. وهذا هو الَّذي يمثّل حقيقة الألوهيَّة والربوبيَّة.

وبذلك، فإنَّ كلمة (لا اله إلا الله) تمثّل كل عمق الإيمان وكل امتداده؛ لأن الإنسان عندما يستغرق في معنى الله وفي صفاته وأسمائه، فإنَّه لا يجد هناك موقعاً يقف عنده، بل يمتدّ في كل امتدادات صفاته التي لا تقف عند حدّ.

«وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريق»1، أي أنّه من أقلّ صفات الإيمان، أن يتحرّك الإنسان في الطريق التي يسلكها الناس، فإذا رأى ما يؤذيهم، مما يمنعهم من حرية السير أو الراحة فيه، فإنه - من خلال أخلاقيته الإيمانية - يتحسَّس إنسانيَّته، فيعمل على أن ينزع من الطَّريق كلَّ ما يؤذي الناس، كما أنَّ ذلك ينطلق من خلال إحساسه بالمسؤوليَّة في أن يتحرك الناس بكلّ راحة وحريّة.

وقد ذكرنا سابقاً، أنَّ السيِّد المسيح عيسى بن مريم (ع)، مر بقبر يعذَّب صاحبه، ثم مرَّ في العام القابل فرآه وقد رُفِعَ العذاب عنه، فناجى ربَّه الذي كشف عن بصره أولاً وآخراً، أنَّ هذا الرجل كان يعذَّب في العام الماضي، ومن الطبيعي أن لا يعذَّب إلا من كان يستحقّ العذاب، فلماذا رفع العذاب عنه؟! تقول الرواية: فأوحى الله إليه، أنَّه نشأ له ولد صالح، فآوى يتيماً، وأصلح طريقاً، فغفرت له من أجل ولده.

ونحن نفهم من هذا، أنَّ الجانب الاجتماعي في ما يجلب للنَّاس الخير والراحة، حتى على مستوى إصلاح الطَّريق وإماطة الأذى عنه، أمر لصيق بالدّين ومفاهيمه، وأنَّ هذا الجانب الاجتماعي يجعل الإنسان مرضياً عند الله، فقد يرفع العذاب عنه به، أو عن والده، باعتبار أنَّه يمثِّل حالة صلاح في شخصيَّته الإيمانيَّة الإنسانيَّة.

 

* من كتاب "النَّدوة"، ج 16.

السيد محمد حسين فضل الله

--------------------------

[1]كنز العمّال، المتّقي الهندي، ج1، ص 40.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة