البث المباشر

الأدب العربي ومساوئ القصة الغربية -٤

الخميس 31 يناير 2019 - 19:47 بتوقيت طهران

الحلقة 190

من اخطر المحاولات التي يقوم بها الغزو الثقافي والتغريب عن طريق فرض منهج النقد الغربي الوافد الدخيل محاولة اذابة الأدب العربي في محيط الأدب الشرقي القديم ومحيط الأدب الغربي سواء ما اتصل منه بالاغريقي او بالأوروبي الحديث، لقد ارتبط الأدب العربي منذ ظهور الاسلام به كما ارتبطت الآداب الفارسية والهندية التي ظهرت من بعد وقد استوفى الأدب العربي مفاهيمه وقيمه قبل ان يتصل بالآداب الشرقية القديمة او الآداب اليونانية والاغريقية معاً من حيث تحديد خصائصه المستمدة من ذاتيته ومن المزاج النفسي والعقلي الخاص به وفي ضوء هذا نجد ان نسبة كتب مثل كليلة ودمنة او ألف ليلة وليلة الى الأدب العربي أمر يجب ان يقابل بالحيطة والتحفظ ذلك ان مثل هذا الأدب او مضامين هذه الكتب من فلسفات وغيرها لا تمثل واقع الأدب العربي ولا تتوافق مع أصالته انما تمثل الشرق قبل الاسلام، واذا كان الأدب اليوناني قدم لنا صورة الأساطير وتعدد الآلهة والملاحم الوهمية وذلك الصراع العميق بين الانسان والآلهة فإنّ الأدب الشرقي قد قدم في ألف ليلة وليلة صورة الترف البشعة التي عاش فيها الاباطرة والملوك والامراء، وكلاهما قد استغله دعاة التغريب في العصر الحديث لنقل الأدب العربي من طابعه القائم على الصدق والبساطة والوضوح الى جو من الرمزية والضلال والغموض الدخيل على سمات هذا الأدب وعلى خصائصه واصوله.
كتاب كليلة ودمنة ليس من الأدب العربي اساساً وهو كتاب هندي الاصل ترجم الى الفارسية ثم ترجمه الفارسي بن المقفع الى‌ اللغة العربية ويحتوي على حكايات قصيرة على ألسنة الحيوانات فيه سمة الرمز والإيماء والغموض والهروب من الوضوح والصراحة، وقد وجهت الى كتاب كليلة ودمنه اتهامات فنية تبعده عن الذوق العربي منها تداخل قصصه مما يصف القاريء على استقراء حوادث القصة وتتبعها الى الغاية التي يرتاح اليها وما يرى فيها من تشعب القصة الواحدة وتداخل بعض الحكايات وغير ذلك.
اما كتاب ألف ليلة وليلة فهو ليس من الأدب العربي في الاساس فأن القصة الرئيسة فيه ترسم منهجه من ان ملكاً من الملوك عاد من سفره فجأة فأكتشف جريمة زوجته فعهد نفسه على ان يتزوج كل ليلة فتاة ثم يقتلها في صباح الغد، حتى تزوج بأبنت الوزير التي اخذت تقص له قصة فلما جاء موعد قتلها استبقاها الملك لتكملها له في الغد فما زالت تروي ليلة بعد ليلة الى الألف، والواقع ان هذا المدخل ليس عربياً ولا يمثل مزاج الأدب العربي والكتاب مليء بالخرافات والأساطير وقصص الحب والسحر والطلاسم وصور الخمر والرقص والعود والندامة مما يجعل بين عدد من القصص الشعبي القديم في تراث الهنود والفرس القدماء ثم اضيفت اليه قصص مصرية وبغدادية. وقد اكد الدارسون لاصول الف ليلة انه من مصدر هندي فارسي قديم كما ان بعض حكاياته من اصل يوناني وغيرها من اصل يهودي وان اصله الاول هو كتاب (هزار افسانة) أي ألف خرافة او اسطورة، واشار الدكتور احمد ضيف الى مخالفة هذا الادب لطبيعة النفس العربية وآدابها فقال ألف ليلة كان ادباء العرب يعتبرونه كتاباً غثاً بارداً كما يروي ذلك المسعودي في مروج الذهب وابن النديم في الفهرست، وعلى الرغم من انتشار هذا النوع فقد بقي غريباً على القصة العربية فلم يتمكنا سلوبه من نفوس الكتاب.
وفي العصر الحديث استغل التغريب ودعاته مذهب النقد الغربي الوافد هذا التراث القديم المضطرب المصدر لإفساد جوهر الأدب العربي والتأثير عليه وتهديم قيمه وقد سبقهم الى هذا جماعة المستشرقين والمبشرين ومعاهد الإرساليات ومطابع اليسوعيين في بيورت فأهتموا بهذين الكتابين وأصدروا منهما طبعات انيقة مزينة بالصور كما فعلت دار هلالة وقد أثار المستشرقون حين اتخذوا من كتاب ألف ليلة مصدراً لرسم صورة المجتمع المسلم وهي صورة زائفة اذا رجعت على المصارد التاريخية الصحيحة، ومن السيء جداً المجانب لمنهج البحث العلمي ما فعله اكثر من مستشرق حين انكأ على كتاب ألف ليلة بهدف استخراج صورة لما اسموه الحب في الشرق مستنتجاً اياها من خلال القصص التي لا تمثل واقع الأدب العربي ولا الحياة اليومية التي كان يتحرك فيها هذا الأدب ولا تمثل المجتمع المسلم، هذه الصورة التي رسمها المستشرقون هي التي تحتويها ألف ليلة من ناحيه الفساد والإباحة او الترف والمجون او الخلط بين المرأة الحرة والغانية والأميرة والجارية.
وليس معنى هذا إلا تقرير حقيقة اساسية هي ان الوثنية لها أدب، والتوحيد له أدب وان الأدب العربي بعد الاسلام قد طبعه طابع التوحيد فعزله وعزل عنه مثل هذه الصور والخيالات والخرافات، واذا كان التغريب استغل هذه الأساطير وبعثها واحياها من جديد وحشد لها حشوده من المبشرين والمستشرقين والتغريبين فإنّ ادباء الأصالة قد كشفوا اهداف هذا العمل ولعل ذلك يصدق تماماً في عبارة احمد موسى السالم جاء الاوروبيون حديثاً وهم يعرفون جيداً ان هذه العناصر الشرقية من الزينة والأسراف في المتعة والتحلل هي التي ذهبت بالامبراطورية الاسلامية فأشادوا بها وكتبوا فيها الشعر والقصص وجاء ابناءنا القادمون من جامعات الشمال يحملون الينا تقدير اوروبا ذات النهضة الصناعية للجو الشرقي والاحلام الاخلاقية وسحر الشرق وتردد ذلك عندنا فأنبعث في بلادنا شهرزاد الغاوية مرة اخرى وامتدت في ظلمات حياتنا بقية من ليالي ألف ليلة. وهو بهذا يشير الى كتابات طه حسين وتوفيق الحكيم وغيرهما عن ألف ليلة وشهرزاد وهي قصص تجري في هذا التيار الغريب عن نفسية الأدب العربي وأصالته.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة