حرص النفوذ الأجنبي والغزو الفكري على ترجمة نصوص الأدب الاغريقي لإغراق الأدب العربي الحديث في هذه النصوص الوثنية الأساطيرية وذلك من اجل خلع هذا الأدب عن جذوره الاسلامية القرآنية وانفتاحه من ثم على الأدب الغربي الحديث الذي يستند في الاساس على الأدب الاغريقي الدقيم، وقد تطوع لخدمة هذا الاتجاه التغريبي عدد من الدارسين في معاهد الغرب والمتربين في مدارس الارساليات التبشيرية، وكان في مقدمة هؤلاء المتغربين فكراً وروحاً طه حسين الذي منحوه لقب عميد الأدب العربي وراح يبشر بأفكاره من خلال تدريسه في الجامعة المصرية وفي ما يكتب ويؤلف ثم ظهر عدد كبير من الدعاة في بيروت ومصر في مقدمتهم صفر خفاجة مظهر ولطفي السيد وسلامة موسى وتوفيق الحكيم ولويس عوض وغنيمة هلال والدكتور غلاب وغفلوا عن الخطر الآخرون واشادوا بأفلاطون وارسطو دون ان يفقهوا ما يرددونه ويعرفوا ابعاد القضية فيما يتعلق بإتصال الفكر الاسلامي والأدب العربي بالفكر اليوناني.
لقد حمل طه حسين لواء ترجمة الأدب الاغريقي والتعريف به على اكثر من اتجاه وكان قد عاد من فرنسا حين عين استاذاً من الجامعة المصرية لتدريس التاريخ اليوناني والروماني منذ عام ۱۹۲۰ حتى عام ۱۹۲٦ حيث انتقل الى تدريس الادب العربي القديم في فترته الاولى عني طه حسين ما اسماه صحائف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان وكتب تلك الفصول التي اسماها قادة الفكر ليوهم الناس ان قادة الفكر والحضارة في العالم ليسوا إلا ارسطو وافلاطون وسقراط، وفي هذا توجيه خطير لشباب الأمة حين يلقي بتصورهم ان هؤلاء اليونانيين هم وحدهم القادة للفكر العالمي وفي هذا من الخداع والمكر والتضليل ما لا خفاء فيه، ومن خلال منهج طه حسين وأباطيله ظهرت دراسات وابحاث مؤيدة من قبل عدد من الدارسين وجاءت ترجمة كتب ارسطو لتقوي هذا الاتجاه وظهر من حاول ان يرد البلاغة العربية الى اصول يونانية مزعومة وذلك في محاولة خبيثة لربط الأدب العربي الحديث بالادب الغربي قديمه وحديثه وفصله عن جذوره من القرآن الكريم والفكر الاسلامي والأدب العربي الاصيل.
الواقع ان الأباطيل التي اثارها منهج النقد الغربي الدخيل لم تقوى على ان تعمر طويلاً فسرعان ما انكشف زيفها بأسرع ما كان يظن اصحابها ذلك ان كثيراً من الأدباء الذين سيروا هذا المنهج قد دهشوا عندما تعرت امامهم الحقائق فعادوا الى الصواب وآمنوا بالفواصل الاساسية الكبيرة التي تفصل الأدب العربي عن الأدب اليوناني بالذاتية والنفسية والجانب الاجتماعي والديني وقد كشفت بحوث عبد العزيز محمد الزكي ومحمد مفيد الشوباشي وزكي مبارك ومحمد غلاب عن مدى فساد هذا المنهج وعن عجزه مع العلم انهم من الذين جروا اشواطاً مع منهج النقد الغربي الوافد وخدموه مدة من حياتهم.
اهتم محمد مفيد الشوباشي بمسألة القصص اليونانية التي ترجمت الى العربية وذكر ما تتضمنه من معاني الغدر والقتل والاباحة التي هي موضع تقدير الدكتور طه حسين، واوردت الشوباشي مثلاً في ذلك قصة الكتيرا المرتكزة على الخيانة الزوجية والقتل والتآمر والغرق في مستنقع الرذيلة باعتباره آية من آيات الادب الاغريقي، كما اورد مثلاً آخر في قصة اوديب ملكاً التي ترجمها طه حسين وتتجلى فيها معاني الانحراف والاباحية الدنسة والعلاقة المحرمة بين الأم بعد قتل الاب، وقد قال طه حسين عن هذه القصة انها منبع الاداب العالمية بأعتبارها آية فنية لا تصل الى مستواها قصص العصر الحاضر.
الواقع ان القصة الاغريقية اذا صح انها حسنة الشكل فهي ليست حسنة المضامين ومع هذا فحسن شكلها موضع اختلاف وجدل كثير فقد نص الكثيرون من النقاد الى ان بناءها الفني مهلهل، والافكار التي تتضمها بدائية ساذجة وان حوارها مفتعل واسلوبها اجوف، اضافة الى هذا فأن اغلب القصص الاغريقية يطرق موضوعات شاذه وغير انسانية فتعكس حياة شعب غمست المعتقدات الوثنية عقله وحجزته عن الحقائق الواقعية واضعفت فيه العواطف الانسانية النبيلة واستثارت به الفلظة والميل الى الشر وله في ذلك العذر، فآلهة الاغريق في الاغلب فاسدة تميل الى الانتقام فإذا عمل لها ان تنصف مظلوماً او ترحم ملهوفاً اشترطت في ذلك شروطاً تجرد رحتمها وانصافها من اية كلمة انسانية، وهي لا تنكل بعبادها فحسب ولكن بعضها ينكل ببعض ويفتك به، وليست المقادير رهينة التي يقع الناس في حبائلها ولا يستطيع منها خلاصاً الا من تدبير هذه الآلهة، وقد قيل ان الوثنيين الاغريقيين هطلوا على صور الهتهم والاصح ان يقال انهم اتبعوا الهتهم على صورتهم.
ان شعر الاغريق الملحمي ايها المنصف نقول يصور عالماً وهمياً ويصف آلهته وعمالقته فرساناً يتميزون بقدرات غير آدمية ويحققون الخوارق وينساقون وراء شهوات واطماع واحقاد وحشية، ويأنفون ان تغلب عليهم الرحمة او يمس قلوبهم حب او حنان، ويرتكبون في سبيل تحقيق غاياتهم آثاماً تتقزر منها النفوس وهم لا يعتدون على الاحياء فحسب بل يمثلون بالجثث ايضاً، والمرأة قاتلة كالرجل وهناك امرأة تشترك مع عشيقها لقتل زوجها والتنكيل بأبناءها وهناك اخرى تحرض اخاها على قتل امه فيقتلها فعلاً وهناك اخرى تتزوج بأبنها وغير هذا وذاك فالمرأة الاغريقية تتصف بالغدر في اغلب مآسي الاغريق وتستسلم للرذيلة دون اية مقاومة وترتكب ابشع الجرائم مدفوعة بأخطر النزوات، فها هي دي هيلينا تخون زوجها في قصة تروادة وتهرب مع حبيبها بلا ادنى تردد او شعور بتأنيب الضمير وتتسبب بحرب ابادة شعوباً ودمرت بلاداً عن آخرها. اجل ان النشاط المبذول لإحياء الأدب الغربي العتيق والتعلق به ليس إلا وليد تيار رجعي متخلف وليست مذاهب التريالية والوجودية واللامعقول إلا محاولة لبعث ألوان جديدة من ذلك الأدب الأثري الوهمي الذي تخطى الانسان المتحضر المستنير مرحلته منذ عهد بعيد.
******