الموجة التغريبية التي قادها المستشرقون والمبشرون وتلامذتهم التابعون في النصف الاول من القرن العشرين كانت موجة ماكرة خبيثة معادية تبرع للخدمة فيها امثال احمد ضيف وطه حسين وزكي مبارك واضرابهم وطائفة من تلاميذهم المنسلخين عن الاصالة المشوهين فكرياً وروحياً، وقد تعرض البيان القرآني بسبب منهج النقد الادبي الغربي الوافد الى اخطار علنية اذ كان هذا البيان الإلهي المقدس هدفاً اساسياً من اهداف هذا النقد، والملاحظ ان محاولة الدخول اليه والهجمة عليه لن تكن عبر الابواب العامة والرئيسية بل كانت من وراء ذرائع وعلات يراد بها في النهاية ان تصل الى نقد بيان القرآن الكريم واسلوبه، من هنا كان كتاب الشعر الجاهلي وكتاب في الادب الجاهلي لطه حسين من اكبر المحاولات التي حرصت علىالتعرض للبيان القرآني ثم جاء كتاب النثر الفني في القرن الرابع لزكي مبارك فوسع نطاق هذه المحاولة ثم كانت بعد ذلك محاولات الفن القصصي لخلف الله وغيره. لقد بدأ دعاة المنهج الغربي من حيث انتهى المبشرون والمستشرقون ومن خلال شبهة مضللة وهي ان القرآن المجيد من صنع محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن قوله ومن هنا اباحوا النظر اليه على انه وثيقة ادبية من انشاء بشر في حين هو في حقيقته تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، وقد كان الإلحاح على هذه الدعوة التغريبية من اخطر ما القي الى الشباب في كلية الآداب بجامعة القاهرة في حينها وفي الدراسات والمحاضرات المختلفة بل ان احدهم لينكر كيف كان التالف طه حسين يكلف بعض طلبته ان ينقدوا بعض آيات من القرآن يعينها لهم ويطلب منه اثبات هذا النقد من كراسات يتلونها عليه، فكانوا يذكرون مثلاً ان هذه الآية ليست من البلاغة بمكان وان الآية الاخرى مفككه لا تؤدي المعنى المقصود منها وامثال هذه الافتراءات المعادية التي تتلبس بلباس الادب والنقد الادبي، وقد غاب عن هذا المتغرب المنسلخ انه لا يصح التصدي لتفسير القرآن الا لمن تتوافر فيه شروط اساسية منها ان يكون ملماً بكل فروع اللغة العربية وآدابها وان يكون واسع الاطلاع على اسباب النزول والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه وبحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واسناده فهل تتوافر مثل هذه الشروط في هؤلاء التلامذة المبتدأين بالنحو الذي تتوافر فيمن يتعرض لتفسير كتاب الله، فما بالكم لمن يزعم انه يريد ان ينقده؟
لقد جاء في احدى هذه المحاضرات الصبيانية ان على الباحث الناقد ان لا يفرق في نقده بين القرآن وبين اي كتاب ادبي آخر وقد بدأ التشكيك بالقول ان في القرآن اسلوبين متعارضين لا تربط الاول بالثاني صلة ولا رابطة وهذا في الواقع تقليد اعمى لما اتراه بعض المستشرقين والمبشرين من ان القرآن من صنع النبي ومن انشاءه وانه تأثر في مكة بالنصارى وفي المدينة باليهود ويحاول طه حسين ان يقنع شباب كلية الاداب بذلك ويحاول ان يفرق في صياغة القرآن بين القسم المكي منه الذي يصفه بقصر الآيات والخلو التام من التشريع وبين القسم المدني الذين ينفرد بالتشريع ثم يعبر طه حسين عن عمى بصيرته اضافة الى عمى بصره فيقول: «ان هذا اثر واضح من اثار التوراة والبيئة اليهودية» وهناك مسألة الحروف المقطعة التي تبدأ بها بعض سور القرآن الكريم مثل «الم،كهيعص، حم» وغيرها يقول عنها هذا الاستاذ التالف المتغرب انها كلمات ربما قصد منها التعمية او التهويل واظهار القرآن بمظهر عميق مخيف او هي رموز وضعت لتمييز المصاحف المختلفة التي كانت موضوعة عند العرب. وقد اكدت لجنة التحقيق المتشكلة من عدد من العلماء في تقريرها ان طه حسين قد انكر تواتر القرآن وقراءاته وانكر الاعتقاد بصدق القرآن وانكر صدق القرآن والنبي فيما اخبرا به عن ملة ابراهيم وصحف اسماعيل كما أيّد مزاعم المستشرقين المعادية بشأن القرآن الكريم، النائب العام محمد طاهر نور الذي اجرى التحقيق مع طه حسين بشأن مفترياته قال: «خطأ طه حسين يبدأ بأفتراض يتخيله ثم ينتهي بأن يرتب عليه قواعد كأنها حقائق ثابتة كما فعل في مسألة ابراهيم واسماعيل وهجرتهما الى مكة وبناء الكعبة فأنه بدأ بقوله، للتوراة ان تحدثنا عن ابراهيم واسماعيل وللقرآن ان يحدثنا عنهما ايضاً لكن ورود هذين الاثنين في التوراة والقرآن لا يكفي لاثبات وجودهما التاريخي فضلاً عن اثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة اسماعيل بن ابراهيم الى مكة ونشأت العرب المستعربة فيها، لكن طه حسين ما يلبث ان يبني على شكل هذا حقيقة وقراراً بكثير من الصراحة حين قال امر هذه القصة اذن واضح فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الاسلام واستغلها الاسلام لسبب ديني فما هو اذن الدليل الذي انتقل به طه حسين من الشك الى اليقين؟ ان هذا الكتاب ليعجز حقاً عن الاتيان بدليل واحد يؤيد ما يزعمه وما يذهب اليه وكل ما استند عليه من الأدلة هو من قبيل قوله فليس يبعد ان يكون، فما الذي يمنع، ونحن نعتقد، ومثل قوله واذن فتستطيع ان تقول»، وحين سؤل هذا المتغرب المنسلخ عن أصل مسألة ابراهيم واسماعيل وهل هي من استنتاجه او نقلها من احد فقال: «هذا فرض فرضته انا دون ان اطلع عليه في كتاب آخر واخبرت بعد ان ظهر الكتاب ان شيئاً مثل هذا يوجد في بعض كتب المبشرين» ولا ريب انه كان يكذب فهو الناظر دائماً الى ما تخطه اقلام المستشرقين والمبشرين. والمبشر صاحب هذا الكتاب الذي اشار اليه كان قريباً منه وهو الذي تسترّ تحت اسم مستعار هو هاشم العربي بيد ان هذا المبشر كان اظرف في تعبيره من طه حسين واكثر لباقة.
كتاب طه حسين حول الشعر الجاهلي الذي ضمنه اراءه التافهة قد اعترض عليه كثيرون منهم محمد احمد الغمراوي ومحمد الخضر حسين ولطفي جمعة ومصطفى صادق الرافعي، وكشف الغمراوي عن مؤامرة تحويل كتاب الشعر الجاهلي الذي صدر الى اسم جديد هو الادب الجاهلي واشار الى انه ألغى ما تورط فيه لكنه في كتابه الجديد ظلّ على اتجاهه العام في التشكيك في القرآن. ويقول عنه كاتب آخر: «اذا كان قد طوى في الطبعة الجديدة من كتابه بعض الخزي الذي كان في طبعة القديمة كزعمه ان ما ورد في القرآن وفي التوراة عن ابراهيم واسماعيل عليهما السلام انما هو اسطورة غير مستند في هذا الزعم الى دليل علمي فأن في الطبعة الجديدة من العداء للاسلام والعرب ومن السفطة المستورة والمكشوفة شيئاً كثيراً»، والحق ان الذين يتصورون ان طه حسين الف كتابه عن الشعر الجاهلي ليناقش الشعر المنحول والمفتعل انهم هم قصار النظر فالواقع ان طه حسين اراد ان يثبت اراءه المنحرفة والإلحادية جميعاً التي لم يجد سبيلاً لإعلانها صراحة فغلف بها هذا البحث ودسها في ثنايا الكتاب.
*******