مرة اخرى نلتقي في طلاقة الهواء النقي لنقرأ شيئاً من التاريخ، وتاريخ المسلمين في قرونهم الاولى درس ماثل له اثره في صناعة الحاضر والمستقبل، فمن الخطأ تصور التاريخ انه حوادث كانت في زمان ما ومكان ما ثم اندثرت وطوتها الحياة المتجددة، ان ماضي الانسان لا يكف عن التأثير في حياة الانسان وفي تشكيل نمط شخصيته. ان النظر الى وقائع تاريخنا بعين مفتوحة بعيداً عن الغشاوة يدلنا على قضايا مهمة في بناءنا الفكري وفي حياتنا الدينية بوجه عام ومن اجل هذا المعنى الهام نلتقي في الهواء الطلق للمزيد من التعرف والاطلاع.
افتتح بنوامية عهداً جديداً في تاريخ المسلمين امتاز بالاستبداد بالسلطة وبقمع الخط الاسلامي الاصيل الذي يأخذ من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويمثل حقائق الدين وكان امير المؤمنين علي بن ابي طالب واهل البيت عامة هم الذين يقصدهم الاضطهاد والسب والاقصاء ذلك ان علياً وابناءه (عليهم السلام) هم حملة مشاعل الهداية في الليل للناس وهم الذين يدور معهم الحق حيثما داروا وهم الذين مع القرآن والقرآن معهم، كان في النطق النبوي الذي رواه عامة المسلمين، وعلى الجسر الذي يصل بين حكم الامويين وحكم بني العباس ظهرت جماعات من المجان والخلعاء تمر فوقه لتستقبل على الشاطيء الاخر الرذيلة باسطة ذراعيها لتضم هؤلاء الوافدين من طلابها، وانشأ الحاكمون اتجاهات فكرية شتى مهمتها الواقعية ان تملأ الساحة تشوش على الخط الاسلامي الاصيل، اما خط علي (عليه السلام) فلم يقف طيلة هذه المسيرة المتنكرة للرسالة موقف الصامت وتنوعت المواقف من اهل البيت (عليهم السلام) بين فض للهجمات الفكرية المصنوعة وبين موقف الحركة الثورية المقارعة بالسيف، في عهد المنصور العباسي خرج العديد من الرايات العلوية تطالب بالحياة الاسلامية المبرءة من الظلم والاضطهاد، كان من بينها حركة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن السبط (عليهم السلام) التي انتهت بمقتل محمد المعروف بالنفس الزكية لزهده، وهكذا عاد الحجاج بن يوسف من جديد بالثوب العباسي القبيح ولكن في عالم تغلب عليه حياة الجواري والعلمان والمغنيات تلك الحياة التي خرجت بذرتها من قادة بني امية ليستظل تحتها القادم الجديد. في مثل هذه الاجواء المشحونة بالتذمر والعزاء الذي تحرسه الحراب العباسية كيف كان اتباع الخط العلوي وممثلوه؟ لقد سارت احوال خط علي بن ابي طالب (عليه السلام) في النظام العباسي بين اذى الدولة المكشوف وبين اذى الطرق المضمونة النتائج والتي ترتدي ثوباً من الطيبة الظاهرية الخادعة، حتى اذا جاء عهد المتوكل بلغ الاستكبار العباسي ذروة من ذراه البغيضة فأمر حتى بهدم قبر سيد شباب اهل الجنة المظلوم الامام الحسين (عليه السلام).
وهكذا جمع بنو العباس في منتصف رحلتهم الهلع المروع الى الخوف المرتجف والقوة على خط الامام علي بن ابي طالب (سلام الله عليه) فذهب الائمة الهداة من ابناءه شهداء مظلومين وحرب ذوي القربى ونكل بأتباعهم والمنتمين الى خطهم الالهي المنقذ، والائمة الطيبون من ابناء علي وفاطمة (صلوات الله عليهم) كانوا ينطلقون في مواقفهم الكريمة امام حقائق الدين ومن النص الجلي الذي اعلاه جدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مرات ومرات كما في قوله (صلى الله عليه وآله) الذي رواه الترمذي وقال عنه حديث حسن صحيح وكذلك رواه البخاري قال (صلى الله عليه وآله وسلم) يكون بعدي اثني عشر اميراً كلهم من قريش وروى الطبراني لا يزال هذا الامر ظاهراً على من ناوأه لا يظهره مخالف ولا مفارق حتى يمضي احد عشر خليفة كلهم من قريش وروى ابن عساكر لا يزال امر امتي صالحاً حتى يمضي منهم اثنى عشر خليفة كلهم من قريش، وروى نعيم بن حماد واحمد والحاكم يكون بعدي من الخلفاء عدة نقباء بني اسرائيل والطريق الى نقباء بني اسرائيل لابد ان يأخذ في حسابه منزلة هارون من موسى التي اثبتها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام).
ان تيار اهل الحق لن يضره من خذله او عاداه او ناوءه، روى البخاري قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): طائفة من امتي ظاهرين على الحق وهم اهل العلم ونحن نعرف من هم اهل العلم الذين قاتلوا وليقاتل احد من اهل العلم لاقامة الدين او على تأويل القرآن الا خط علي بن ابي طالب (عليه السلام)، روى مسلم لا تزال طائفة من امتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي امر الله وهم كذلك. وفي رواية لا تزال طائفة من امة قائمة بامر الله لا يضرهم من خذلهم او خالفهم حتى يأتي امر الله وهم ظاهرون على الناس وفي رواية احمد والحاكم وابي داود بزيادة حتى يأتي امر الله تبارك وتعالى وينزل عيسى بن مريم.
وقد ذكر كثير من الشراح ان امر الله هنا هو المهدي المنتظر الذي ينزل عيسى بن مريم في زمانه لنصرته ولا ريب ان المهدي (عليه السلام) هو من ابناء علي بن ابي طالب وفاطمة ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) . ومن المعلوم ان الامام المهدي (سلام الله عليه) هو الثاني عشر من ائمة اهل البيت الذين كان اولهم ابوه امير المؤمنين علي (عليه السلام) ولم يدع احد من طوائف المسلمين ان لهم ائمة اثني عشر فتكون المسألة محصورة في هؤلاء الائمة المطهرين الذين بشر بهم جدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وامر المسلمين بالائتمام بهم.
ان دائرة اهل البيت دائرة اصيلة في الوجود لم يكسرها ظلم بني امية ولا جور بني العباس ولا يعرف اعتبار الدائرة بكثرة عدد ابناءها والمنتمين فعلاً اليها لان الحق حق وان قل اتباعه والباطل باطل وان كثر اتباعه، ويقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جماعة امتي اهل الحق وان قلوا، واهل الحق هم العارفون بالله عزوجل المتصلون بساحة قدسه المعظمون لما عظم الله والمهونون لما هون الله وهم المصطفون الاخيار الذين اصطفاهم الله تعالى وصنعهم على عينه، انهم صنايع الله المخصصون بالطهارة والعصمة والامامة وهم المؤهلون الهياً لقيادة الناس تلقاء التوحيد الحق في كل ميادين هذا التوحيد وائمة اهل البيت (عليهم السلام) هم الهادون نحو حياة اسلامية واقعية تضمن خير الدنيا وسعادة الاخرة، وهم العاملون لبناء الانسان العابد الصالح لان شرط التمكين في الارض ان يكون العباد صالحين، قال تعالى «وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ».
*******