بصورة مفاجئة، وبلا إعلان رسمي مسبق، طار رئيس مجلس الوزراء العراقي المنتهية ولايته مصطفى الكاظمي، مساء الخامس والعشرين من شهر حزيران/ يونيو الجاري من العاصمة بغداد إلى مدينة جدّة السعودية، ليلتقي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وعدداً من المسؤولين الكبار في المملكة، قبل أن يؤدي مناسك العمرة في مكة المكرمة، ويركب الطائرة الرئاسية الخاصة متوجهاً إلى العاصمة الإيرانية طهران، التي تهيّأت لاستقباله برفع العلم العراقي على امتداد الشارع الرابط بين مطار الإمام الخميني الدولي جنوب طهران ومركزها.
لاشك في أن جولة مكوكية سريعة وخاطفة بين السعودية وإيران، تحمل في طياتها وثناياها جملة وتساؤلات واستفهامات لا تنفصل عن مجمل الجهود والمساعي التي تبناها العراق طوال العامين الماضيين لتذويب جبل الجليد، وإعادة جزء من المياه إلى مجاريها بين طهران والرياض، بعد عقود من القطيعة والتقاطعات والاختلافات والخلافات التي وصلت حد إغلاق السفارات في مطلع عام 2016.
وكذلك، ربما لا تنفصل جولة الكاظمي المكوكية عن الحراك المرتبط بقمة الرياض المزمع عقدها في منتصف شهر تموز/ يوليو المقبل بحضورٍ ومشاركة من الرئيس الأميركي جو بايدن وزعماء دول مجلس التعاون في الخليج الفارسي، إلى جانب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والملك الأردني عبد الله الثاني، إضافةً إلى رئيس مجلس الوزراء العراقي.
إلى جانب ذلك، فإن هناك من ذهب إلى أنه في كل الأحوال، لا بد أن تكون التفاعلات والتبعات السياسية المربكة والمقلقة في المشهد العراقي قد شغلت حيّزاً من البحث والنقاش في جدة وطهران، لاسيما أن التجديد للكاظمي ولايةً ثانية لم يخرج عن دائرة الخيارات المطروحة، سواء الداخلية منها والخارجية.
فيما يتعلق بملف الحوار السعودي-الإيراني برعاية عراقية، صرّح الكاظمي قبل أكثر من أسبوعين قائلاً: "إن "المباحثات الإيرانية-السعودية التي جرت في بغداد وصلت إلى مراحل متقدمة، وإن هناك حوارات أخرى وجميعها نجحت، ولم نعلنها في في ذلك الحين احتراماً منا لطبيعة الدور السري الذي يؤديه العراق، والذي أصبح نقطة التقاء، وتخفيف للتوترات في المنطقة، وهذه فيها انعكاسات على الوضع الاقتصادي العراقي وعلى استقرار الوضع الأمني".
هذا الكلام صحيح إلى حدّ كبير، ويمكن أن يلمس المتابع والمراقب مصاديقه على أرض الواقع، حيث يترجّح أن تشهد جولة الحوار السادسة، التي لم يحدّد موعدها حتى الآن، حضور وزيري خارجية إيران والسعودية، حسين أمير عبد اللهيان وفيصل بن فرحان.
ولعل العراق، أسس أرضية جيدة للحوار بين طهران والرياض وفق قاعدة التركيز على نقاط الالتقاء والتمحور حول مبدأ المصالح المتبادلة، والابتعاد قدر الإمكان عن الملفات الإشكالية المعقدة والقضايا الشائكة جداً، وهو ما قوبل بارتياح وترحيب من الطرفين، وهو ما شجّعهما على السير قدماً بخطوات عملية تعبيراً عن حسن النيات وصدق الإرادات.
وما ساعد على حلحلة العقد المتراكمة طوال أربعة عقود من الزمن، مشاركة أطراف إقليمية أخرى مثل سلطنة عُمان إلى جانب العراق في جهود التقريب بين المتخاصمين، فضلاً عن أن مدّ الجسور بين طهران والرياض عبر بغداد، كان ولايزال يدور بالتزامن مع حراك متعدّد الاتجاه بين عدد من العواصم الإقليمية، كدمشق، وأبو ظبي، وطهران، وأنقرة، والدوحة والقاهرة وبيروت، من أجل تطويق الأزمات واحتواء الصرعات إلى أقصى قدر ممكن.
وفضلاً عن الانعكاسات الإيجابية الكبيرة لإنهاء القطيعة والخلافات بين طهران والرياض على الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية في العراق، فإن ذلك من شأنه أن يحلحل مختلف ملفات الأزمات الإقليمية، لكن في الوقت نفسه، ينبغي الالتفات إلى قضية غاية في الأهمية، ألا وهي أنه مهما تقارب الطرفان، فإن لكل منهما ثوابت ومسارات خاصة ذات طابع سياسي وعقائديّ وفكري، من الصعب عليهما التنازل عنها أو المساومة عليها، بصرف النظر عن الخطأ فيها أو صحتها. ولعل من هذه النقطة يجري التعاطي مع قمة الرياض المرتقبة منتصف الشهر المقبل، فالأخيرة تعتقد بأهمية تقوية وتعزيز تحالفات إقليمية مدعومة دولياً، وتحديداً من الولايات المتحدة الأميركية، وقد تخدم مصالح "إسرائيل" وأمنها بطريقة أو بأخرى، فيما ترى طهران خلاف ذلك تماماً، وتدرك جيداً أن قمماً ومؤتمرات ولقاءات كهذه موجّهة إليها قبل أي طرف آخر، وإذا لم تكن الأطراف العربية تصرح بذلك علناً، فإن واشنطن و"تل أبيب" وأطرافاً دولية لا تتردد في تكرار ادّعاء أن الأخطار المحدقة بالمنطقة والعالم تأتي من الجماعات والتنظيمات الإرهابية المسلحة، ومن إيران (حسب ادعاءهم).
وعلى مدى أعوام عديدة، نجحت واشنطن و"تل أبيب" في تأليب وتحريض وتحشيد حلفائها وأصدقائها وأتباعها الإقليميين على إيران وعموم قوى محور المقاومة، ولم يكن العراق في منأىً عن ذلك التأليب والتحريض والتحشيد، الذي انعكس بصورة مظاهر إرهاب واضطراب أمني، وتنازع وتصادم سياسي، ومشكلات وأزمات حياتية مزمنة ومتوالية، من دون أن يفضي إلى أيّ نتائج إيجابية مثمرة، بل على العكس من ذلك تماماً، فقد وجدت واشنطن و"تل أبيب" ومَن يقف وراءهما أنفسهم متورطين وغارقين في مستنقع لا تعرف للخلاص منه سبيلاً، ولعل مآلات الازمة السورية، واليمنية كذلك خير مصداق ودليل، فضلاً عن عدم جدوى الانسداد السياسي في لبنان، والتشظّي والانقسام السياسي الحاد على طول الخط في العراق.
وفي حال قررت الأطراف التي ستشارك في قمة الرياض عدم تكرار تجارب الماضي، فإنها إن لم تكن قادرة وغير مستعدة لأن تدير ظهرها للولايات المتحدة و"إسرائيل"، فبأمكانها تجنّب التصعيد العقيم، وغير المجدي مع إيران، والعمل لخلق توازنات تضمن مصالحها ومصالح الآخرين، وتضع حداً لاستنزافِ مزيدٍ من الدماء والأرواح والأموال، والتخريب والتدمير.
من جدّة ومن طهران، قال الكاظمي، إن هناك رؤية مشتركة بضرورة التهدئة في المنطقة، وتعزيز علاقات العراق بالسعودية وإيران، في الوقت نفسه الذي أكد فيه ساسة كبار في هذين البلدين أهمية انطلاق حوار جاد وبنّاء بين دول المنطقة لتسوية المشكلات وإنهاء الأزمات.
ويبدو من مجمل الحراك الإقليمي في العامين الجاري والماضي، أن هناك قناعة باتت راسخة لدى مختلف الأطراف، مفادها أن إيران لاعب إقليمي ودولي ومؤثّر، والحوار والتفاهم معها، يعد السبيل الأفضل لضمان الاستقرار، وتجنّب التصادم، والحؤول دون الأزمات. كيف لا يكون سبيل الحوار والتفاهم هو الأفضل والأنجع، بعد أن اكتشفت الولايات المتحدة وأوربا ذلك، ومسيرة مفاوضات الملف النووي الإيراني بمطباتها وعراقيلها ومعوّقاتها المختلفة تؤشّر إلى صحة المسارات والخيارات المطلوبة.
قد لا تستطيع الرياض إقناع الكاظمي بالمشاركة في قمتها المرتقبة، وقد لا تستطيع طهران ثنيه عن المشاركة، انطلاقًا من رؤيتيهما المتناقضتين، فيما قرار المشاركة أو عدمه ستفرضه المعطيات وحقائق الواقع السياسي الداخلي. بيد أن النظر إلى الدور الإيجابي لبغداد في إطفاء بعض النيران، وإذابة جزء من كتل الجليد، يفترض ألا يخرج عن الأخذ بالاعتبار طبيعة التوازنات القائمة والظروف غير الطبيعية التي غالباً ما كانت تحتّم على بغداد التعامل بمرونة، وعدم قطع خيوط التواصل مع كل الأطراف، ولو بدرجات ومستويات متفاوتة.
وربما يستثمر الكاظمي حراكه على الجوار الاقليمي، ذلك الحراك الفاعل والمؤثر في رسم وصياغة جانب من المعادلات السياسية الخارجية في تعزيز حظوظه للبقاء في منصبه، وهذا أمر طبيعي جداً، بيد أن دوره الإيجابي في الساحات الخارجية الإقليمية، ونيل قدر كبير من رضا وقبول الفرقاء الإقليميين والدوليين، ربما يصطدم بالتجاذبات، وتقاطع الإرادات والمسارات الداخلية المرتبكة والغامضة.
في الحصيلة، مهما كانت التعقيدات كبيرة، والتقاطعات حادة، والمواقف متباينة، والثقة مهزوزة، فلا مناص من التفتيش والبحث عن نقاط التقاء، انطلاقاً من حقيقة أن الانفراج في جبهة ما، يستتبعه انفراج أو انفراجات في جبهات أخَر.
ويبقى العراق الذي عانى كثيراً طوال الأعوام التسعة عشر المنصرمة، وربما قبلها أيضاً، أكبر المستفيدين وأكثرهم، وهو يشيّد جسور التواصل والتقارب والتلاقي بين طهران والرياض، ويجمعهما على طاولات التفاهم والحوار، بدلاً من تصادمهما في ميادين المعارك والصراع.
عادل الجبوري