فصار اللواء إليه يومئذ ففاز بالراية واللواء جميعاً، وكان الفتح له في هذه الغزاة كما كان له ببدر - سواء - واختصّ بحسن البلاء فيها والصبر، وثبوت القدم عندما زلّت من غيره الأقدام، وكان له من الغناء عن رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وآله وسلم ـ ما لم يكن لسواه من أهل الإسلام، وقتل الله بسيفه رؤوس أهل الشرك والضلال، وفرّج اللّه به الكرب عن نبيّه صلى الله عليه وآله، وخطب بفضله في ذلك المقام جبرئيل عليه السلام في ملائكة الأرض والسماء، وأبان نبيّ الهدى عليه وآله السلام من اختصاصه به ما كان مستوراً عن عامّة الناس.
وروى زيد بن وهب الجهني قال: حدّثنا أحمد بن عمّار قال حدّثني: الحمّاني قال: حدّثنا شريك، عن عثمان بن المغيرة، عن زيد بن وهب، قال: وجدنا من عبداللّه بن مسعود - يوماً - طيب نفس فقلنا له: لو حدّثتنا عن يوم حد، وكيف كان؟ فقال: أجل - ثمّ ساق الحديث حتى انتهى إلى ذكر الحرب -
فقال: قال رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وآله وسلم: "خرجوا إليهم على اسم اللّه"، فخرجنا فصففنا لهم صفّاً طويلاً، وأقام على الشعب خمسين رجلاً من الأنصار، وأمّر عليهم رجلاً منهم، وقال: "لا تبرحوا عن مكانكم هذا وان قتلنا عن آخرنا، فإنّما نؤتى من موضعكم هذا" قال: وأقام أبو سفيان بن حرب بإزائهم خالد بن الوليد، وكانت الألوية من قريش مع بني عبد الدار، وكان لواء المشركين مع طلحة بن أبي طلحة، وكان يدعى كبش الكتيبة.
قال: ودفع رسول اللّه صلّى الله عليه وآله لواء المهاجرين إلى عليّ ابن أبي طالب عليه السلام وجاء حتّى قام تحت لواء الأنصار.
ولما رأى أصحاب الشعب الناس يغنمون قالوا: يذهب هؤلاء بالغنائم ونبقى نحن؟! فقالوا لعبدالله بن عمرو بن حزم، الذي كان رئيساً عليهم: نريد أن نغنم كما غنم الناس، فقال: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أمرني أن لا أبرح من موضعي هذا، فقالوا له: إنه أمرك بهذا وهو لا يدري أنّ الأمر يبلغ إلى ما ترى، ومالوا إلى الغنائم وتركوه، ولم يبرح هو من موضعه، فحمل عليه خالد بن الوليد فقتله.
وجاء من ظهر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يريده، فنظر إلى النبيّ في حفّ من أصحابه، فقال لمن معه: دونكم هذا الذي تطلبون، فشانكم به، فحملوا عليه حملة رجل واحد ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح ورمياً بالنبل ورضخاً بالحجارة، وجعل أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وآله يقاتلون عنه حتى قتل منهم سبعون رجلأ، وثبت أمير المؤمنين عليه السلام وأبو دجانة الأنصاري وسهل بن حنيف للقوم يدفعون عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وكثرعليهم المشركون، ففتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عينيه فنظر إلى أمير المؤمنين عليه السلام - وقد كان غمى عليه ممّا ناله - فقال: "يا عليّ، ما فعل الناس؟
قال: نقضوا العهد وولّوا الدبر، فقال له: فاكفني هؤلاء الذين قد قصدوا قصدي" فحمل عليهم أمير المؤمنين عليه السلام فكشفهم، ثمّ عاد إليه - وقد حملوا عليه من ناحية خرى - فكرّ عليهم فكشفهم، وأبو دجانة وسهل بن حنيف قائمان على رأسه، بيد كلّ واحد منهما سيفه ليذبّ عنه. وثاب إليه من اصحابه المنهزمين أربعة عشر رجلاً منهم طلحة بن عبيد اللّه وعاصم بن ثابت. وصعد الباقون الجبل، وصاح صائح بالمدينة: قتل رسول اللّه، فانخلعت القلوب لذلك، وتحيّر المنهزمون فأخذوا يميناً وشمالاً.