وقد ولد العطار في مدينة نيشابور في إيران. يعرف عادة بإسم عطار وكلمة عطار معناها بائع الأدوية الشعبية والتوابل والعطور، ولكن ميرزا محمد، يثبت بأمثلة وجدها في كتابيه خسرو نامه وأسرار نامه، أن هذه الكلمة لها معنى أوسع من ذلك، ويقول، أنها أطلقت عليه، لأنه كان يتولى الاشراف على دكان لبيع الأدوية، حيث كان يزوره المرضى، فيعرضون عليه أنفسهم، فيصف لهم الدواء ويقوم بنفسه على تركيبه وتحضيره.
ولقد تحدث عن نفسه في كتابيه، مصيبت نامه والهي نامه، فذكر صراحة بأنه ألفهما في صيدليته، التي كان يتردد عليها في ذلك الوقت خمسمائة من المرضى، كان يقوم على فحصهم وجس نبضهم.
وقد ولد العطار في مدينة نيشابور في إيران، وأمضى به ثلاثة عشر عاماً من طفولته، التزم فيها ضريح الإمام الرضا، ثم أكثر بعد ذلك من الترحال، فزار الري والكوفة ومصر ودمشق ومكة ومدينة والهند وتركستان، ثم عاد فاستقر في كدكن، قريته الأصلية، واشتغل تسعاً وثلاثين سنة من حياته في جمع أشعار الصوفية وأقوالهم.
مئات الأسباب تدفعك لحب الشيخ فريد الدين العطار النيشابوري الذي تلقن عشق الحرية من الطيور وحاول ان ينقل ذلك العشق إلى البشر، واسباب اكثر منها تدفعك لاحترامه أقلها انه لم يمتهن المديح كغيره من شعراء وكتاب العرب ورفض الوقوف على أبواب قصور المستبدين للاستجداء والمنفعة، فمن ينحني للتكسب الرخيص لا يستطيع ان يرفع رأسه أبداً، وما أجمل شيخ نيشابور في صلاة الشكر التي سجلها على احدى أوراق مخطوط منطق الطير حين قال: (شكراً للّه، فلم ألجأ إلى قصر، ولم أكن ذليلاً لحقير، ولم أطعم خبز ظالم، ولم اختم كتاباً بذكر احدهم مطلقاً).
وسيرة مؤلف (منطق الطير) الذي تعلم التحليق إلى آفاق غير مطروقة من ذوات الأجنحة، شديدة الغرابة والتطور قياساً لزمانها، فمع انه ولد وعاش في القرن السادس الهجري، قرن المذابح والتعصب، فانه كان متسامحاً رحب الصدر كبير القلب، وعدواً حقيقياً للتعصب والمتعصبين. فالتعصب عنده صنو الجهل والجنون، أو ليس هو القائل وفي منطق الطير أيضاً: (يا من وقعت أسير التعصب، وظللت ابداً أسير البغض كيف تفخر بالعقل واللب، فمن يفخر بهما لا يقع أسير التعصب)، وهذا هو المنطوق ضد التعصب أما المرموز والمسكوت عنه بين السطور فكثير.
توجد القصص حول ولادة فريد الدين العطار وموته بالعشرات، فالبسطاء لا يصدقون ان مؤلف ذلك السفر العجيب (منطق الطير) الذي بهر الأجيال يمكن ان يولد، ويموت ميتة طبيعية، لكن هذا ما كان، فقد ولد الرجل لعطار يقوم بالتطبيب وصار مثله، يقصده اكثر من خمسمائة شخص يومياً ليجس نبضهم، وكل العطارين أطباء في ذلك الزمان وقد مات ذلك الذي ملأ الدنيا بعطر الروح الصافي بعد ان هجر المهنة والناس واختار العزلة لأسباب شرحها وشبه نفسه بمالك الحزين في نص حفظه القزويني في مقدمة (تذكرة الاولياء) قال فيه: يقولون عني: ما له قد آثر العزلة... نعم لا صديق لي بين الخلق واني وان كنت افعل ذلك فلانني في الطبع كمالك الحزين. وفي عزلته تلك وتجلياتها التي انتجت عدة كتب قيمة كشف العطار عن انه كان يستمد قوته وانسه من أم ضعيفة قوتها كقوة العنكبوت ومع ذلك كانت تؤانس وحدته وتشد ازره (لقد كانت ضعيفة كالعنكبوت ولكنها كانت لي حضناً ودرعاً).
ولأن العرب والفرس لا يضعون مسألة التأثر والتأثير في حجمها الطبيعي اتهم بعضهم الشيخ النيشابوري بسرقة فكرة (منطق الطير) من فلاسفة وشعراء آخرين وهي تهمة رددها مستشرقون ايضاً يعيد بعضهم ومنهم بيزي أصل الكتاب إلى رسائل ابن سينا الفلسفية متناسياً ان العطار كان عدواً صارماً للفلاسفة والمتفلسفين، وقال آخرون انه سار في (منطق الطير) على خطى ابي العلاء المعري في رسالة الغفران وهؤلاء أخطأوا أيضاً، فتأثر فريد الدين العطار الحقيقي كما يؤكد المستشرق ريتر كان بالإمام الغزالي.
وهناك بالفعل رسالة للإمام الغزالي اسمها (رسالة الطير) ترجمت إلى الفارسية والإمام الغزالي على قيد الحياة، وهي تحكي عن طيور تبحث عن ملك يحكمها يتميز بالعقل والعدل، وفي سبيل ذلك الملك طارت الطيور إلى أقصى الأرض فهلك القسم الأعظم منها في الطريق ولم يصل إلى الهدف المنشود إلا فئة كانت الصدمة بانتظارها لأن الملك العادل رفض ان يحكمها، وقال لمن وصل منها: اتعبتم انفسكم دون طائل فنحن الملك شئتم أم أبيتم جئتم أو ذهبتم ولا حاجة بنا إليكم.
والدليل الدافع على ان العطار لم يخرج من هذه الأجواء النورانية انه اختار الهدهد مرشداً للطيور لكنه لم يكن متعسفاً، ولا مستبداً كالبشر فقد أعطى الطيور حق التصويت الديمقراطي (القرعة) بلغة ذلك الزمان وقد أجرت الطيور قرعتها واختارت الهدهد ليكون مرشدها في طريقها الطويل لاختيار حاكم غير مستبد.
وكانت الطيور كما قص العطار الذي لم يفسده الدهر قد اجتمعت بدعوة من السيمرغ، وهو طائر أسطوري مؤنث يجعله العطار أصلاً للطيور كلها: (لقد سبق للسيمرغ أن ألقت ريشة في الصين، فأثارت الاضطراب هناك واتخذ كل واحد صورة من هذه الريشة وكل من رأى هذه الصورة بدأ يصنع مثلها ولو لم تظهر صورة هذه الريشة لما وجد في الدنيا هذا العراك وتلك الضوضاء وكل الآثار التي تليها تنبثق من عظمة السيمرغ وجميع الكائنات صورة من ريشتها).
وقبل السيمرغ تحيط الأجواء الأسطورية بالهدهد فيزعمون انه يرى الماء في باطن الأرض، ويقال في حكمة منقولة في رد أسطورة الهدهد إن ابا حنيفة سأل الإمام الصادق(ع) كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير فقال: لان الهدهد يرى الماء في باطن الأرض كما يرى أحدكم الدهن في القارورة، فضحك أبو حنيفة وقال: وكيف لا يرى الفخ في التراب ويرى الماء في باطن الأرض، فقال الإمام الصادق: يا نعمان اما علمت انه إذا نزل القدر عمي البصر.
وغير إعجابه بحكمة الهدهد، للعطار كتاب عن البلابل وهو فيه كما في منطق الطير يقفز من فكرة إلى أخرى كما يطير العصفور من غصن إلى آخر ليغرف من مخيلة مدهشة وقلب حار وعقل ثاقب، فالعطار ومع قدرته على الإدهاش وحرصاً على أولوية القلب لا ينكر على العقل دوره. أما مأثرته الكبرى في كتابته الاحتمالية التي تعثر فيها بعد كل قراءة على معنى جديد مثله في ذلك مثل جميع الإشراقيين في التراث الإسلامي الذين راوحوا بين منطقة الرمز والحقيقة، والواقع والأسطورة ونطقوا وسكتوا فأفهموا في النطق والسكوت وظلت كتاباتهم تحتفظ بوهجها وبقيت نافعة لكل الأجيال في كل زمان ومكان.
لقد ساح العطار في (منطق الطير) بقارئه بين وديان المعرفة والحيرة والعزلة والاستغناء والتوحيد ثم وقف بهم في وادي الفقر والفناء حيث النسيان نهاية المطاف أما وقفته الأجمل فكانت في وادي العشق حيث يضيع العقل وتشتعل النيران في قلوب العشاق دون قدح ويقدم العاشق المفلس روحه طواعية لمن يحب وفي ذلك الوادي أسرار مألوفة ومجهولة عن أحوال المحبين.
وبعد الوقوف في ذلك الوادي لن تتهم فريد الدين العطار بالمغالاة حين يخط بقلمه تلك العبارة في آخر منطق الطير (لقد نثرت يا عطار نافجة المسك المليئة بالأسرار على هذا العالم في كل آونة) لكن هل فرغت قارورة العطار مع نهاية ذلك الكتاب قطعاً لا، فكل من يعيد قراءة حروفه يكتشف سرمدية ذلك العطر الذي يتقطر من حروف شاعر اعطى نفسه للمحبة فردت له المحبة التحية بأحسن منها وكرسته بوصلة للعشاق والعارفين.
أما تاريخ وفاة الشيخ العطار، فقد اختلفت فيه آراء أصحاب التواريخ اختلافاً كبيراً. فالقاضي نورالله التستري يجعله في سنة 589 هجرية.
وأهم مؤلفاته: بندنامه:أي كتاب النصيحة، وهو كتاب صغير مجمل مليء بالمواعظ الأخلاقية، منطق الطير وهو منظومة رمزية، تذكرة الأولياء، الهي نامه، مختارنامه، خسرونامه، مصيبت نامه، جواهر نامه، شرح القلب، اشترنامه، مظهر العجائب، الديوان: يجعلونه أعلى مرتبة من المثنويات من ناحية صياغته الشعرية ومعانية المبتكرة.
أما تاريخ وفاة الشيخ العطار، فقد اختلفت فيه آراء أصحاب التواريخ اختلافاً كبيراً. فالقاضي نورالله التستري يجعله في سنة 589 هجرية.
وتوفي هذا الشاعر الايراني خلال الغزو المغولي للعالم الاسلامي بداية القرن السابع الهجري في نيشابور ويقال أنه قتل علي يدهم، قام الشيخ بهاء الدين في كتابه الشهير «الكشكول» بعرض تفاصيل عن هذا الحادث.
ومازالت مقبرة الشيخ عطار بالقرب من نيشابور قائمة أعاد بناءها وصيانتها الوزير حسين بايقرا في عهد الأمير «عليشير نوايي» بعد أن كان قد هُدمت في العهد التيموري.
من أجواء الرباعيات نقرأ:
'أطوف حول الجنون في عشقك/وأخرج من دائرة العقل/ لقد سبحت في دم قلبي أمدا طويلا/ جريت أنت في دمي، وأنا أطوف في الدم/ إلى متى تؤذيني أنا المبتلى؟/ إلي متى تشهر السيف في وجهي أنا المضطرب؟/ إنني لست منتبها، ولا فاقد الصواب بسبب الحيرة/ ولو أنني لا أتكلم أبدا، فإنك تعلم حالي جيدا ما أكثر ما أدمى قلبي على بابك!/ ولم يصدر صوت من خلف الحجب فحواه: من أنت؟/ إذا نظرت إلي أنا المهموم/ فإنني سوف أعيش خالد، حتى إذا مت'.
كما أنشد في قصيدة أخرى:
عشق جمال الحبيب بحر من النار /ان كنت عاشقا احترق فهو الطريق المبين /في مكان يشتعل الشمع فيه فجاة /كيف لا تحترق الفراشة والحريق يقين / إن تطلب العشق ذر الكفر والدين / هناك حيث العشق ما محل الكفر والدين.