البث المباشر

"جلال آل أحمد".. الكاتب الإيراني الذي عاش نصوصه ورحل أسطورة

الثلاثاء 2 ديسمبر 2025 - 19:28 بتوقيت طهران
"جلال آل أحمد".. الكاتب الإيراني الذي عاش نصوصه ورحل أسطورة

جلال آل أحمد، هو أحد أبرز كتّاب إيران المعاصرين، عاش حياة قصيرة لكنها مليئة بالتجربة والفكر، وترك بصمة عميقة في الأدب والسياسة. وبدأ نشاطه الثقافي منذ الشباب وكتب نحو 50 أثراً، وظلّ قلمه رمزاً للمسؤولية والالتزام حتى رحيله.

عاش جلال آل أحمد، الذي وُلد في 3 ديسمبر 1923، عمراً قصيراً.

فستة وأربعون عاماً قليلة لرجل مثله، لكن عمق حياته وما مرّ به من تجارب في مسيرته المتقلّبة جعل تأثيره في الأدب وفي التيارات السياسية المعاصرة أمراً لا يمكن تجاهله.

يمكن اعتبار نشر أعمال مثل «التغرب» و«في خدمة وخيانة المثقفين» نقطة انطلاق في تغيير الرؤى السياسية.

فـجلال لم يؤثّر بآثاره فقط، بل أيضاً بأسلوبه النضالي الجديد الذي اختاره، إذ استطاع أن يخلق موجة جديدة بين الكتّاب وأصحاب القلم، وأن يوجّه اهتمام الجمهور نحو القضايا المحورية.

ويكتب الراحل سعيد تشكّري حول ذلك:

«بفضل حضور جلال، نما نقّاد مرموقون آخرون في المجلّات الأدبية في الستينيات، ولاحقاً في السبعينيات، إلى حدّ أن كاتباً شاباً وموهوباً مثل محمود كلابدره‌ اي، من شدّة إعجابه بجلال آل أحمد، أهداه لقب “آغا جلال”، وقال:

أنا التلميذ الذي لا منازع له. كما يتجاوز جلال ذلك بإضفاء بُعد سياسي على وفاة فروغ فرخزاد وصمد بهرنكي وكل الوفيات المشابهة بين الفنانين، ويحاول أن يخلق تقارباً بين الكتّاب ليقفوا ضد حكومة بهلوي.»

وقد تناول محمد حسين دانايي، ابن أخت جلال، بمناسبة ذكرى ميلاده، جوانب من أسلوب حياته في مذكرة نُشرت، وجاء في جزء منها ما يلي:

 

قبل ستين عاماً

(استذكار جلال آل أحمد بمناسبة ذكرى ميلاده في ديسمبر 1923)

المرحوم آية الله الحاج السيد أحمد طالقاني (آل أحمد)، عندما وصله خبر ولادة الطفل الجديد، أمسك بالقلم وكتب في إحدى الصفحات الأخيرة من المصحف بخطّ موروث عن أبيه:

«بسم الله الرحمن الرحيم،

وُلد نور العين سيد محمد حسين الملقّب بجلال‌ الدين – حفظه الله تعالى – ليلة الخميس الحادي والعشرين من شهر شعبان المعظّم 1342، بعد مضي نحو ساعة من الليل، الموافق لبرج القوس. جعل الله قدومه مباركاً بحق محمد وآله الطاهرين».

بعد أربعين عاماً، كتب جلال آل أحمد عن ذلك قائلاً:

«هبوطي المهيب إلى حديقة الحيوانات هذه، عام 1923»، ثم أضاف:

«طفولتي مرّت في نوع من رفاهية أرستقراطية لأسرة روحانية… وما إن أنهيت المدرسة الابتدائية حتى لم يسمح لي والدي أن أتابع الدراسة، وقال:

اذهب إلى السوق واعمل! كي يجعل مني خليفة له فيما بعد. فذهبت إلى السوق، لكن دارالفنون كانت قد افتتحت صفوفاً ليلية، فسجّلت فيها خفية عن والدي. نهاراً عمل… وليلاً دراسة… وهكذا أنهيت الثانوية،

وجاء ختم “دبلومه” في أسفل صفحتي، عام 1943، أي زمن الحرب… ولما انتهت الحرب كنت قد أنهيت كلية الآداب عام 1946، وصرتُ معلّماً عام 1947…».

(جلال آل أحمد، مقال «مثلاً شرح أحوالات»، منشورات رواق، طهران، يونيو 1964).

بدأ نشاطه السياسي ـ الثقافي، الذي كان في جوهره نشاطاً كتابياً، منذ شبابه، حين ترجم عام 1943 كتيباً من العربية إلى الفارسية بعنوان «عزاداري‌ هاي نامشروع» لآية الله السيد محسن العاملي. ويقول عن تلك التجربة:

«بعنا النسخ بقران أو قرانين، ونفدت خلال يومين، وفرحنا كثيراً… ولم نكن نعلم أن بعض التجار المتدينين قد اشتروها كلّها بالشيكات ثم أحرقوها…»

وحتى أيلول/سبتمبر 1969، حين توفي في أسالم، كان قد ألّف نحو خمسين كتاباً، تنوّعت بين القصة والمقالة والتقرير والترجمة والمشاهدات واليوميات وأدب الرحلة. كان كاتباً مسؤولاً، وصاحب آراء لافتة ومثيرة للجدل؛ يقول مثلاً:

«إيّاك أن تُباع ـ ولو بثمن خزائن قارون ـ عبداً لأحد. إن اضطررت لبيع شيء فلتبع ساعدك، أمّا قلمك فلا. حتى جسدك يمكن أن تبيعه، ولكن لا تبيع الكلمة…»

كان مثقفاً حقيقياً، يعيش بين الناس، يراعي تفاصيل الزمن والمكان، ويشخّص أزمات المجتمع بخفاياها وطبقاته المستترة، ثم يسعى ـ بعلمه وفنه ومهارته ـ إلى أن يساعد الناس على عبور المنعطفات الصعبة بأقل خسارة ممكنة.

وتكتب زوجته، الروائية الشهيرة سيمين دانشور، عن أسلوبه:

«… جلال يشبه كتاباته كثيراً؛ فأسلوب جلال هو ذاته… إن كان في كتاباته تلغرافياً، حساساً، دقيقاً، ثاقب النظرة، غاضباً، متطرّفاً، خشناً، صريحاً، صادقاً، طهرانياً، وصانعاً للحدث؛ وإن كان في نصوصه يهدم بيت الظلم، ويخوض جدالاً دائماً بين السياسة والأدب، بين الإيمان والكفر، وبين الاعتقاد المطلق واللااعتقاد؛ فهو في حياته اليومية كذلك أيضاً…»

وهذا مقطع من يومياته بتاريخ 19 ديسمبر 1965 (قبل ستين عاماً)، نموذجاً لأسلوبه الفريد:

«… كنّا في أسالم، وفي مساءٍ خرجتُ أتمشّى وسط حقول الأرز وقد غمرتها المياه، فيما بقي من سيقان حصاد العام الماضي شامخاً في الماء. وقعُ حوافر الخيل يتخبط في طين الحقول، وغراب جاثم على كتف أحدها، وسائر الغربان تحلّق جماعات ثم تهبط من جديد على الأرض، مع نعيق متواصل، وصهيل حصان ما إن رآني أقترب.

السماء كانت واطئة حدّ الملامسة، توحي بمطرٍ وشيك. وفي البعيد عبرت حافلة الطريق بعينين حمراوين في مقدّمها، شريط من الغبار خلفها. سيقان الأرز الباقية بدت كحزمٍ صغيرة من القصب مغروسة في الماء، وظلٌّ صغير – سقيفة – أسندتُ ظهري إلى عمودها، وعلى التراب بين المدرجات نبت عشبٌ غضّ في هذا الفصل، عشبٌ جديد وطري.

كان الغروب كئيباً، زاده خوارُ بقرة من الدار الملاصقة للحقل، فيما غاصت قمم الأشجار في الضباب، وصار الغابة البعيدة في لفّةٍ من سِتر الضباب، حتى تماهى الواقع مع الحلم. وأشجار الغابة فوق قمم التلال البعيدة ارتصّت كالسياج، تتعاقب صفاً بعد صفّ، وتغلق حاشية الأفق على سماءٍ بعيدة…»

رحم الله جلال آل أحمد، وبقي اسمه حيّاً لا يبهت.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة