ومن بين أعلام الأدب، يمكن الإشارة إلى أبو الفضل البيهقي الذي سيظل بناؤه الشامخ قائماً حتى نهاية الزمان.
يصادف اليوم الخميس 23 أكتوبر ذكرى تكريم «أبو الفضل البيهقي» الذي هو أديب وباحث وأب النثر الفارسي، ويُعدّ اسمه من الأسماء اللامعة في سماء الأدب الإيراني من خلال تأليفه لكتاب «تاريخ البيهقي»، حيث وضع أهم مصدر تاريخي لعهد الغزنويين، وترك إرثاً خالداً يعزز هوية هذه الأرض.
بين التاريخ والأدب
يُمثل كتاب «تاريخ البيهقي» المعروف أيضاً بـ «تاريخ المسعودي» للوزير والأديب الفارسي أبي الفضل محمد بن حسين البيهقي (385-470 هـ/995-1077 م)، تحفةً فريدة تجمع بين دقة المؤرخ وبراعة الأديب.
تُدَرّس جامعات أمريكية وبريطانية كتاب «تاريخ البيهقي» كنص أدبي وتاريخي متميز، حيث يَحظى باهتمام في جامعات ميشيغان وكامبريدج. كما تُستلهم نصوصه في أعمال مسرحية، مما يؤكد تأثيره المتجدد عبر العصور والثقافات.
يُعتبر تاريخ البيهقي من روائع الأدب الفارسي. وهو أحد الكتب القليلة المتبقية من النثر الفارسي ما قبل المغول، ويُعدّ من أندر المصادر التاريخية، ويُعتبر من الناحية الجغرافية أيضاً مصدراً ذا قيمة.
فالبيهقي لم يكتفِ بتسجيل أحداث العصر الغزنوي فحسب، بل حوّل التاريخ إلى فنٍّ أدبي رفيع، من خلال صناعات أدبية مبتكرة جعلت منه نصّاً ملهِماً للأجيال. وقد تناول البيهقي الأحداث والأشخاص وخصائصهم وردود أفعالهم، مثل بقية مؤلفي الأدب الروائي، ووصف الحدث وأكمله كالقصة . وفيما يلي نذكر أبرز الصناعات الأدبية في كتابه «تاريخ البيهقي».
الحوار الدرامي وتشخيص الشخصيات
استخدم البيهقي الحوار بشكلٍ درامي ليكشف عن طبائع الشخصيات وتناقضاتها. فحين يروي محنة الوزير «حسنك الميمندي»، لا يقدمها كحدثٍ مجرد، بل يصوغ حواراتٍ مفعمة بالتوتر بين السلطان مسعود وحاشيته، ليعكس الصراعات السياسية والعواطف الإنسانية من غضبٍ وخوفٍ ووفاء.
في محنة الوزير حسنك الميمندي، يسجل البيهقي هذا الحوار الدرامي:
«قال السلطان مسعود: يا حسنك، ما هذا الذنب الذي اجترحته؟ فأجاب: أيها السلطان، ذنبي أني خدمتك بصدق.. فصاح أحد الحاضرين: إنك خائن! فالتفت حسنك وقال: لو كنت خائناً لما وقفت هنا اليوم!» هذا الحوار يظهر كيف يحول البيهقي الواقعة التاريخية إلى مشهد مسرحي.
الوصف الحيوي والتشبيهات البليغة
امتلك البيهقي قدرةً فائقة على وصف المشاهد والأماكن بتفاصيل حيّة. فوصفه لقصر السلطان أو ساحة المعركة يشبه اللوحات الفنية، مستخدماً تشبيهاتٍ مثل:
«كان الجيش كالسيل الهادر» أو «الوجوه كالزهر المتفتح في الربيع».
هذه الصور تجعل القارئ يشعر وكأنه يعيش الحدث.
يصف البيهقي جيش السلطان مسعود فيقول:
«كان الجيش يتحرك كالسيل الجارف، والخيول كالطير المنتشر في الآفاق، والسيوف كالنجوم المتلألئة في الظلام».
ويصف قصر السلطان:
«كأنه روضة أنفقت عليها يد الصنعة ما أنفقت».
بناء التشويق والسرد القصصي
بنى البيهقي فصول كتابه على منهجٍ قصصي جذّاب. فبدلاً من سرد الأحداث بتسلسلٍ زمني جاف، كان يقطع الخيط التاريخي أحياناً ليخلق تشويقاً، كأن يؤجل كشف مصير شخصية ما إلى فصل لاحق، محاكياً بذلك تقنيات القصص الحديثة.
يقطع البيهقي التسلسل الزمني لخلق التشويق، كما في قوله:
«ولكنني سأترك هذا الخبر الآن، وسأعود إليه حينما يأتي أوانه، فإن للحديث شجوناً».
ويستخدم أسلوب الاستباق:
«لو علم الوزير ما ينتظره لما فعل ما فعل».
التحليل النفسي والتعليق الحكيم
لم يكن البيهقي مجرد ناقل للأخبار، بل كان محللاً نفسياً عميقاً. يعلّق على الأحداث بحكمةٍ فلسفية، مناقشاً مفاهيم مثل «تقلب الدنيا» و«غرور السلطة».
وأشهر مقولاته:
«الدهر لا يبقي على حال، والملوك تزول بقدرتها كما يزول غيرهم، رأيت الدولة تصعد وتهبط كموج البحر».
ويقول في موضع آخر:
«السلطان مثل السفينة، والوزراء كالملاحين، إذا صلحوا صلحت الامة، وإذا فسدوا فسدت».
توظيف الشعر والأمثال
زين البيهقي نثره بشعرٍ عربي وفارسي منتقى، وكثيراً ما استشهد بالأمثال لتعزيز رسالته. فحين يصف خيانة أحد القادة، يذكر المثل: «كما تدين تدان»، مما يضفي على النص بعداً أخلاقياً وشعبياً.
يمزج البيهقي نثره بالأشعار، كما في قوله:
«كما قيل في الشعر: كم من صديق غُررت بوداده.. وأخٍ ظن الدهر لا يتغير.. فإذا به يغدو عدواً مبيناً.. والقلب من ألم الفراق يتفطر».
الصور البلاغية المبتكرة
يصف تغير المواقف السياسية بقوله:
«الوزراء كالنجوم، يشرق بعضها حين يغيب بعض، ولكلٍ دورته الزمانية.»
ويصور الخيانة:
«العهود بين السلاطين كالزجاج، سهلة الكسر صعبة الإصلاح».
التوازن بين الموضوعية والفنية
رغم أدبية النص، حافظ البيهقي على أمانة التاريخ. كان يتحرى الدقة ويذكر مصادره، قائلاً:
«ما سمعته لا أكتبه، وما شهدته لا أحرّفه».
لكنه كان يقدم الحقائق بطريقة فنية تثير التأمل دون تشويه.
نماذج من رؤيته النقدية
يميز البيهقي بين الرواية التاريخية والأدب الخيالي:
«إنما أكتب ما رأيت أو سمعت من الثقات، لا ما اختلقته الخيالات. وأزين الحق بالبيان، كما تزين الجوهرة بالذهب».
ويؤكد على الموضوعية:
«لا أحابي أحداً، فالحق أحق أن يتبع».
إرث البيهقي.. جسر بين الثقافات
يعد «تاريخ البيهقي» حلقة وصل بين التراثين الفارسي والعربي، حيث كتبه باللغة الفارسية القديمة، لكنه استخدم مصطلحات عربية وأشعاراً عربية بمهارة. وأثّر هذا العمل في مؤرخين لاحقين مثل ابن الأثير والطبري، ولا يزال مرجعاً لأدباء وباحثين كرمزٍ للتاريخ الأدبي.
ويختتم البيهقي أحد فصوله بعبارة تظهر فلسفته:
«هذه أحوال الدنيا تدور، والعبرة للعاقلين، والحكمة للعارفين، والتاريخ مرآة للأمم».
بهذه الصناعات الأدبية، حول البيهقي التاريخ من سجل جاف إلى فن أدبي خالد، يمتزج فيه العمق التاريخي بالجمال الأدبي، ليظل «تاريخ البيهقي» نموذجاً فريداً في الأدب التاريخي العالمي.
التاريخ كفنٍّ راقٍ
بينما غدا كثير من التواريخ غباراً في المكتبات، بقي «تاريخ البيهقي» نابضاً بالحياة. لقد حوّل البيهقي السرد التاريخي إلى صناعة أدبية تزينها البلاغة، وتعمقها الحكمة، وتبعث فيها الروح الإنسانية. فهو ليس كتاب تاريخ فحسب، بل مدرسة في الفن والأدب والإنسانية.