الخطط الحربية تتشكل بشكلين لا ثالث لهما: خطة هجوم وخطة دفاع عند سائر الاُمم الحاضرة والغايرة وفي جميع الحروب النظامية وغير النظامية وسواء كانت الطريقة هي الكر والفر أو الأصطفاف أو الكردسة أو تفرقة الجند على طريقة الحضارة الحادثة كل ذلك سواء في طريقي الهجوم والدفاع لا يشذ عن هذا غير اُسلوب اللصوص وخطط القرصان وقطاع الطريق وأهل الغارات والسرايا المغيرة والبعوث التي ترسلها الملوك وقوات الثغور المرابطة قد تتبع هذا النظام وقد تغايره لكن الجيوش المنظمة المتقابلة هذه خططها وهذه أنظمتها سواء تكافأ الجيشان في القوة أم أختلفا لا بد من تنظيم خطتين: أحدهما للهجوم، والاُخرى للدفاع كما ستعرف.
فالحسين بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أختار خطة للدفاع بديعة جداً نظراً منه لقلة عسكره وضخامة جيش الأعداء وأنقطاع المدد من جيشه الصغير وأتصال الأمداد بجيش عدوة الكبير فإن القوات تتلو القوات والجحافل تقفو الجحافل حتى قيل:
ملأوا القفار على أبن بنت محمد
جنداً وملؤ صدورهم ذحل
بجحافل بالطف أولها
وأخيرها بالشام متصل
أما قائد قوات الأعداء عمر بن سعد فقد أختار في تنظيم جيشه الكبير المقابل لجيش الحسين الصغير ما تفعله الجيوش الصغيرة في مقابلة الجيوش الكبيرة وتعتمده الأجناد القليلة في ملاقات الأجناد الكثيرة وهو الكردسة. وهذا النظام الذي أختاره عمر بن سعد يدل أن قوة ثبات جيش الحسين (ع) الصغير أعظم من قوة جيشه الجرار وهو كما ظن الخبيث فإن السبعين فرساً في جيش الحسين (ع) لم تقف أمامها العشرة آلاف فرس في جيش عمر بن سعد كما جيء تحريره وهذا مقام يستدعي التوسع فإن معرفة تشكيل الجيشين يوم كربلاء تجر إلى بيان الأنظمة العسكرية التي تستعملها الاُمم قديماً وحديثاً، وكيف كان رسول الله (ص) وامير المؤمنين علي (ع) ينظمان جيوشهما ومعرفة هل الطرز الحديث المدني هو النظام المستحدث أم القديم وحصلت فيه تعديلات وتحسنات وزيدت فيه زيادات لمناسبة الأسلحة النارية الجديدة كالبنادق والمدافع وأستحداث الآليات كالطائرات والدبابات والسيارات المدرعة والمصفحة والبوارج والطرادات والناسفات والغواصات وكيفية أستعمال الطوربيد وإلقاء القاذفات المتلفة من القنابل والطاقات وإطلاق العيارات النارية والخراطيش وماشابه ذلك ونحن قد كتبنا في ((السياسة العلوية)) شرح عهد أمير المؤمنين (ع) فصلاً أطول مما نكتبه هنا بكثير مستوعباً لعامة التنظيمات الحديثة والقديمة.
ونحن نبدأ بتعبئة الجيشين المتقابلين في كربلاء: جيش سيد الشهداء الحسين أبن علي (ع) وجيش قائد القوات الأموية الكوفية عمر بن سعد فإني لم أجد أحداً من المهرة الفنيين والأساتذة القديرين من رسم لنا الخطتين بصورة مفهومة وأنا أرسم ذلك إن شاء الله مستنتجاً ما اُحرره من أسفار التاريخ ومقتضباً له من مجموعة الأثار المتصدية لإيراد وقائع ذلك اليوم الفظيع والموقعة المؤلمة والمذبحة النكراء التي هي أفضع مذبحة بشرية واجهها التاريخ ضحي فيها بسلالات الأنبياء،
وأضع أمام ذلك خريطة ليفهم القارئ أن جيش الحسين (ع) كان في ضمن جيوش الأعداد كنقطة في دائرة أو خرزة في وسط حلقة، وخذ رسم الخريطة:
خطة الدفاع:
الخطة التي رسمها الحسين (ع) لجنده اليسير في الدفاع والدفع لذلك الجيش العرمرم ولا خفاء أن جيش عمر بن سعد على أقل ما روي أثنان وعشرون ألفاً فيه عشرة الاف فارس، وجيش الحسين (ع) قيل ألف رجل وهذا قول المسعودي في مروج الذهب وهو محمول على أنه كان قبل أن يأمر الأعراب بالتفرق وإلا فيعتبر شاذاً لأنه (ع) تبعه اُناس من أعراب وأرباب أطماع حسبوا أن ملك العراق له فلما أعلمهم بخذلان أهل الكوفة له وتظاهرهم بعداوته وأنه قادم على الأسنة والسيوف لا محالة تركوه وتفرقوا عنه في مياههم ويواديهم فبقي معه خلص أصحابه وخواص شيعته.
وقيل: سبعون ويحمل على الفرسان منهم، وقيل: مائة وعشرون: وقيل: مائة وخمسون: وقيل: مائة وأربعون وهو المروي عن الإمام الباقر (ع) وأختاره الطبري المؤرخ وهو اعدل الأقوال إنشاء الله فكان معه (ع) سبعون فارساً وسبعون راجلاً، وفي جيش عمر بن سعد عشرة آلاف فارس وعشرة آلاف رامي بناء على ما هو أعدل الأقوال وهو المروي عن الإمام زين العابدين والإمامين الباقر والصادق (ع) أن جيش عمر بن سعد ثلاثون ألفاً وهذا أصح ما قيل وهو وسط بين القول بالزيادة والنقصان.
فهذا الجيش الضخم أحاط بجيش الحسين (ع) من جميع الجهات، وإن الحسين (ع) رأى عند نزوله بكربلاء تلاعاً ثلاثة متقاربة ترسم بصورة هلال فيتقن أنها تكون مكناً ومكمناً لخيول الأعداء وذلك حيث يقول لنافع بن هلال: خرجت أنفقد هذه التلاع مخافة أن تكون مكناً لخيول الأعداء يوم تحملون ويحملون، فهذا أوجب عنده أن يحتاط منها لئلا يأتيه العدو من خلف كما وقع لجيش النبي (ص) يوم اُحد وجيشه لقلته لا يستطيع الممانعة والمدافعة مستقبلاً ومستدبراً، وإذا فرقته الحملة لم يستطع أن يحمي ما وراء ظهره وإنما يستطيع الممانعة والمدافعة للعدو بأجتماعه وأنضمام بعضه بعض فرأى من لوازم الحزم واليقظة أتخاذ وسيلة لصد هجمات العدو عليه من خلفه وليضطره إلى المكافحة من أمام فأحتفر خندقاً من وراء المخيم يحيط بجميع الخيم من جهات ثلاثة على شكل هلال أيضاً فكان الخندق محيطاً بجيشه ومخيمه من الجنبات الثلاثة: اليمين واليسار والوراء، وملأه بالحطب حتى إذا شب القتال ونشبت الحرب أضرم فيه النار فيمنع من أراد الأقتحام من ناحيته ويرد من حاول الهجوم عليه من هذه الجنبات فيكون قتاله للأعداء من جهة واحدة ويلقاهم من وجه واحد لأن الخندق المضطرم بالنار لا يقتحمه فارس ولا يقتحمه راجل فأصبح هو والتلال الثلاثة المشرفة كأمنع حصن وأحصن سد وأقوى أستحكام يقيمه محارب لجيش مصحر لعدوه.
تعبئة الحسين (ع) لجنده:
ثم إن الحسين (ع) عبأ أصحابه وقسم جنده إلى ثلاثة اقسام فتكونت له ثلاث كتائب صغيرة فجعل واحدة في الوسط وهو القلب واثنين مجنبتين ميمنة وميسرة، وهذا التقسيم للرجالة المشاة فجعل قائدة المجنبة اليمنى وهي عشرون رجلاً زهير أبن القين البجلي، وقائد المجنبة اليسرى وهي أيضاً عشرون رجلاً حبيب بن مظاهر الأسدي، وجعل قائد كتيبة القلب وهي ثلاثون رجلاً أخاه العباس بن علي (ع) ودفع إليه لواء العسكر وهو لوائه الأعظم، ووضع له كرسي فجلس عليه في مركز القلب خلف موقف حامل اللواء، وهذه الكتائب الثلاثة اقامها حرساً للأخبية والبيوت ولتصد هجمات العدو على تخوم ذلك المناخ، وجعل قائد القوات جميعأً أخاه العباس، وجعل له حرساً خاصاً أقامه على رأسه ليدفع عنه من قصده من مردة الأعداء، وهذا الحرس مؤلف من أربعة أبطال من أنصاره وهم: نافع بن هلال الجملي البجلي، وحنظلة بن أسعد الشبامي الهمداني، وأبو ثمامة الصائدي الهمداني، وسعيد بن عبد الله الحنفي، ورأس عليهم أبنه علي الأكبر (ع)؛ فعلي الأكبر (ع) رئيس الحرس الحسيني الخاص، ونافع بن هلال تلقى وظيفة إمارة الرماة فكان من رجال الحرس الخاص وقائداً للرماة.
ثم ألف (ع) كتيبة رابعة وهي كتيبة الخيالة الفرسان ويبلغ عدد فرسانها سبعين فارساً جعلها كبكبة واحدة تحت قيادة الحر بن يزيد الرياحي التميمي وجعل كتيبة الرماة أمام كتيبة الخيل حامية لها من هجمات الأعداء المفاجئة وجعلها صفاً واحداً أمام فرسانه، وفي هذه الكتيبة من مهرة الرماة الفانين وخبرائهم ومن لا تخطئ له رمية إلا نادراً؛ أمير الكتيبة نافع بن هلال وأبو الشعثاء يزيد بن المهاصر الكندي أحد بني هند وكانت معه مائة نبلة نثلها أمام قدمي الحسين (ع) وكان يقول: ((بنو بهدلة فتيان العرجلة)) فأخطأ بخمس نبال وأصاب بخمسة وتسعين نبلة، وكان كلما رمى نبلة قال الحسين (ع): اللهم سدد رميته وأجعل ثواب عمله الجنة، وكذلك فعل نافع بن هلال وكان يكتب على النبلة إسمه وأسم أبيه فيرمي فلا يخطئ، وأطلب تراجمهم من كتابنا ((أعلام النهضة الحسينية) وكتابنا ((الميزان الراجح)).
تعبئة جيش عمر بن سعد لعنه الله:
اما عمر بن سعد لعنه الله فجعل تلك الخيل الكثيرة كراديساً (والكردوس تعرفه العوام بالصموم) وهو عبارة عن كوكبة واحدة مجموعة من فرسان وأمرها أن تحوم على عسكر الحسين (ع) من جهاته الأربعة وجعل على الخيل كلها عزرة أبن قيس الأحمسي البجلي، وعبأ العسكر تعبئة الحرب على النظام المعمول به في تلك العصور: فقسم إلى ميمينة وميسرة وهما المجنبتان، وقلب وساقه، وجعل قائد المجنبة اليمنى الميمنة عمرو بن الحجاج الزبيدي المذحجي، وجعل لكل كتيبة وسرية قائداً، وعلى المجنبة اليسرى الميسرة شمر بن ذي الجوشن الضبابي من بني كلاب بن عامر، وجعل اللواء لواء العسكر الاعظم لدريد مولاه وهو على القلب، ووضع له كرسي في مركز القلب فجلس عليه من وراء الحامية وخلف الصفوف، وجعل على خيل الكشف والطلائع التي تمنع القاصدين إلى الحسين (ع) عن الألتحاق به وترد الخارجين لطلب الميرة أو لأستنهاض قبيلة الأزرق الشبامي من همدان وهو الذي حارب الأسديين الذين أستنهضهم حبيب أبن مظاهر لنصرة الحسين (ع) فردهم على أعقابهم وحال بينهم وبين الوصول إلى الحسين (ع) بقوته التي لم تكن لهم طاقة بمقاومتها فرجعوا إلى حيهم وأرتحلوا من ليلتهم مخافة أن يبيتهم عسكر أبن سعد، وقتل هذا الشقي التعيس قتله القاسم أبن الحسن فيما قيل.
وجعل على كردوس من الخيل كثير بن عبد الله الشعبي شعب همدان وكان فاتكاً فاجراً شيطاناً مارداً أموي العقيدة عثمانياً متصلباً قاسي القلب لئيم المحضر عديم الحياء فهو من شر خلق الله وأخبثهم وأجرأهم على سفك دم محترم وهو القائل لعمر بن سعد لما ندبه لمواجهة الحسين (ع) ليسأله عن مقدمه إلى العراق وما يريد به، قال: والله إن أمرتني أن أفتك به فعلت، فقال: لا ما آمرك أن تفتك به ولكن سله ما الذي أقدمه علينا، فأتجه اللعين يحمل خبثاً وشرارة ويضمر غشاً ودغلاً وينوي فجوراً وغدراً، ولما رآه الحسين (ع) مقبلاً سأل عنه فقال أبو ثمامة الصائدي من همدان (رحمه الله): يا أبا عبد الله! هذا والله شر أهل الأرض وأجرأهم على دم وكتبنا ترجمته في ((الميزان الراجح)) فراجعها.
وجعل أبن سعد على كردوس آخر مسروق بن وائل بن حجر الحضرمي الكندي وكان عاقلاً فرجع عن حرب الحسين لما رأى أستجابة دعائه سريعاً على عبد الله بن حوزة.
ثم صف أبن سعد الرجالة صفوفاً ويقال كردسهم أيضاً قباله الحسين (ع) وأعطى القيادة العامة على كتائب المشاة لشبث بن ربعي من بني عمر بن تميم وكان مؤذن سجاح المتنبئة في الردة مع أبن النواحة مؤذنها الآخر.
وصف أبن سعد الرماة أمام الخيل المكردسة صفوفاً وهم عشرة آلاف رامي، وجعل قيادتهم لمدير شرطة أبن زياد حصين بن تميم التميمي وهو الذي كان على القادسية ووجه الحر الرياحي ليجعجع بالحسين (ع) إن لقيه، وهو الذي قبض على رسول الحسين (ع) قيس بن مسهر الصيداوي فأرسله إلى أبن زياد فقلته، ولهذا اللعين أخبار رديئة اُطلب ترجمته من كتابنا ((الميزان الراجح))، وفي هذا الخبيث جاء ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وأنه خطب أهل الكوفة يوماً فقال: سلوني قبل أن تفقدوني، فقام إليه تميم بن اُسامة أبو حصين هذا فقال: ياعلي! كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر؟! فقال (ع) إني لأعرف ذلك وأعلمه ولكن أين برهانه، وأن على كل شعرة من شعر رأسك ولحيتك ملك يلعنك وشيطان يغويك، وآية ذلك إن في بيتك سخلاً يقتل أبن رسول الله (ص)، وكان أبنه حصين فطيماً يدرج.
ثم نظم أبن سعد لعنه الله كتائب القبائل وجعلها أربعة فرق كما هي عادة قبائل أهل الكوفة وكل فرقة تشتمل على أفواج فجعل أهل العالية هم أهل المدينة فرقة وهؤلاء قريش وكنانة والأنصار ومزينة وغيرهم، وولي قيادة هذه الفرقة عبد الله بن زهير بن سليم الأزدي وهذا الخبين قادة الشقاء إلى هذا الموطن وإلا فقد كان من أصحاب أمير المؤمنين علي (ع) وشهد معه حروبه وهو أبن أخي مخنف بن سليم وكان مخنف صحابياً شيعياً ومات على ذلك ولم يبدل كما بدل أبن أخيه هذا الشقي، اللهم نعوذ بك من عاقبة السوء.
وجعل على الفرقة الثانية التي تجمع كندة وربيعة وحضر موت ومن معهم قيس أبن الأشعث بن قيس الكندي وهذا الخبيث هو الذي أستلب قطيفة الحسين (ع) فعيرته العرب بذلك ولقبوه بقيس القطيفة ولا يلام هذا الرجل فهو ملعون من بيت شقاوة ملعون هو وأبوه وأخوه وأبن أخيه كلهم أشقياء؛ فأبوه الأشعث خارجي وشارك أبن ملجم وأعانه على قتل أمير المؤمنين (ع)، وأخوه محمداً بن الاشعث قتل مسلم بن عقيل وشارك في قتل الحسين (ع)، وأبن أخيه عبد الرحمن بن محمد هو الجاسوس على مسلم بن عقيل واشار على مصعب بن الزبير بقتل أصحاب المختار بذبح منهم أربعة آلاف صبراً بعد أن أعطاهم الأمان، وأخته جعدة بنت الاشعث سمت الحسن بن علي (ع).
وجعل عمر بن سعد على الفرقة الثالثة التي تجمع تميماً وهمدان شبث بن ربعي التميم بعد أن كان الحر هو القائد لهذه الفرقة فتركها ولحق بالحسين (ع) وشبث هذا كما عرفته ممن أرتد مع سجاج وكان يؤذن لها وراجع الإسلام وشهد صفين مع أمير المؤمنين (ع) ثم تحول خارجياً وراجع ظاهراً وأعتقد الخارجية باطناً وهو شريك بن عمر بن حريث وجرير بن عبد الله البجلي والأشعث بن قيس في مبايعة الضب وخلع بيعة أمير المؤمنين علي (ع)، ثم خرج إلى حرب الحسين (ع) ثم حارب المختار فهو يتقلب في الضلالة أولاً وأخيراً.
وجعل أبن سعد على الفرقة الرابعة التي تجمع مذحجاً وأسداً ومن معهم عبد الرحمن أبن أبي سبرة الجعفي من مذحج وهذا الخبيث كان صحابياً وبطلاً من أبطال العرب وشجعانهم ولكنه كان أموي الرأي عثماني العقيدة وهو من شهود الزور الذين شهدوا على حجر حتى قتله معاوية.
ثم رتب عمر بن سعد حرس الشرائع فجعلها كتائب وكان حرس الشرائع قوياً والشرائع كلها على ضفاف نهر العلقمي وهو شعبة من الفرات الأعظم يسمى بالفرات الأصغر فمنها شريعة الغاضرية وتسمى اليوم أرض الحسينية وتبعد عن معسكر الحسين (ع) بمقدار ميلين تقريباً، وأمير حرس هذه الشريعة عمر بن الحجاج الزبيدي في سبعمائة مسلح من الكماة وقيل أربعة آلاف مدجج من الأبطال ولعله الأصح، وشريعة نينوى أو أراضي السليمانية اليوم وهذه المشرعة تبعد عن عسكر الحسين (ع) بمقدار ميل ونصف ميل تقريباً وأمير حرسها الأزرق الشبامي ـ وفي قول بن حيوة ـ. وشريعة المسناة أو قنطرة العلقمي وهذه الشريعة تبعد عن معسكر الحسين (ع) بنصف ميل فهي أقرب الشرائع إلى معسكر الحسين (ع) ومنها أستقى العباس (ع) وعلى ضفتها سقط وبالقرب منها مرقده الشريف، وأمير حرسها إسحاق بن حيوة الحضرمي ويقال الأزرق الشبامي. وشريعة النواويس وهي بالقرب من مرقد الحر الرياحي اليوم وتبعد عن معسكر الحسين (ع) بما يزيد على ميلين وتعتبر أبعد الشرائع عن مخيم الحسين (ع) وأمير حرسها حسان بن أسماء بن خارجة الفزاري وهذا الخبيث كان مع أبيه أسماء ومحمد بن الأشعث لما خدعا هاني بن عروة فقاداه وأسلماه لأبن زياد فقتله وله يقول هاني: يابن أخي إن نفسي أحست ببعض الشر ألخ.
وكل واحد من هؤلاء القواد يتلقى وظيفتين وأكثر في جيش عمر بن سعد؛ فإن الأزرق الشبامي كان على خيل الكشف وأمير الحرس الماء، وعمر بن الحجاج على المجنبة اليمنى الميمنة وعلى حرس الماء وعلى خيل الطلائع، والشمر على المجنبة اليسرى وعلى قطعة من الخيالة وعلى حرس المشاة ليلاً، والحصين بن تميم على الشرطة وعلى الرماة من الجنود، وعزرة بن قيس على فرق الخيالة وعلى الحرس الليلي وهكذا كثير من الباقين.
أختيار أبن سعد للكردسة شأن الضعيف مع القوي:
بقي علينا أن نفهم لم أختار عمر بن سعد لعنه الله الكردسة وإنما يختار الكردسة الضعيف في قبال القوي وتعول عليها القلة في جنب الكثرة وقوة العدو القوية وتفوقه في الاستعداد فتخشى منه الغلبة فيخاف الجيش الصغير أن يحطمه الجيش الكبير ويغلبه بكثرته فيركن إلى الكردسة حين تظهر له أمارات عدم المقاومة لذلك الجيش الضخم المستعد فيضطر القائد المجرب إلى الكردسة ليبين اثرها إذا أجتمعت وتظهر نكايتها في الصدمة.
وقد فعل هذا خالد بن الوليد الخزومي يوم اليرموك فإنه كردس الخيل لقلة جيشه وعدم أستعداده ولياقته لمقابلة جيش الروم الذي يفوقه عدة وعدداً بكثير فإنه لما رأى قوة جيش الرومان وكثرة عدده البالغ على ما قيل مائتي ألف مع الاستعداد ألتام والأهبة الكاملة لأن المقابل للعرب المسلمين في اليرموك حكومة الرومان وقوتها وأستعدادها معلومان لأنها من أقوى دول العالم في ذاك العصر وجيش العرب المسلمين ضعيف من الوجهتين العدة والعدد إذ كان عدد جيشهم ستة وثلاثين ألف مقاتل، ومن حيث عدم الاستعداد إنهم عرب أهل بداوة بعيدون عن أستعداد المتحضرين، وقاصرين عن مساوات الحضارة الدولية فلا يملكون إلا الرماح والسيوف وبعض الاقواس وقل من يملك غير سيف واحد ورمح واحد، ومن كان له رمحان أو سيفان قيل له ذو الرمحين وذو السيفين تعظيماً له.
فرأى خالد بن الوليد بعد أن أقنع القواد بالخضوع له أن الموقف أزاء العدو المقتدر الذي يفوق عدداً وعُدة خطر جداً وحرج للغاية فجعل القائد جيشه الصغير صفوفاً يشرف به على الخطر ويورده مورد التلف فأضطر للكردسة ليتوهم العدو كثرتهم ولتكسر سورة طيشهم وحدة خيلائهم وغيظهم على المسلمين فإن سرايا الفرسان وكتائب الخيالة إذا أقبلت متتالية متعاقبة كبكبة على أثر كببكة وقطعة تلو قطعة أرتاع لها العدو وأرهبه ذلك، ومن وجهة ثانية إنها إذا هجمت على جبهة من الجبهات حطمتها وأزالتها لا محالة ولا تتضرر كثيراً تضرر المصطفين وإن هاجمها العدو لا يظفر منها بطائل لا عتصامها وأحتماء بعضها ببعض.
فخرجت جنود خالد كراديس فبلغت ستة وثلاثين كردوساً لكل كردوس قائد من حمات الصحابة ونوابغ القواد ومهرة الأبطال، والكردوس عدده ألف، فكان فوجاً.
وهكذا كان يصنع مروان بن محمد المرواني المعروف بالحمار والجعدي آخر ملوك بني اُمية فينال بالكردسة ما يريد وعلى هذا كانت تسير قواد الخوارج من الأزارقة والصفرية والأباضية والنجدات وغيرهم، وقديماً ما كان هذا النظام معروفاً وأستعمله من العرب جذيمة الأبرش الملقب بالوضاح وبعض ملوك التبابعة فيدرك من أستعمله مطلوبه وينال بذلك الظفر من عدوه.
فهل ترى عمر بن سعد أستقل جيشه الكثير الجرار المتلاحق الإمداد أم أستكثر جيش الحسين (ع) الصغير الفاقد المدد؟ كلا، لا هذا ولا ذاك ولكنه استعظم جيش الحسين (ع) بثبات رجاله الأفذاذ لأنهم من أهل الحفاظ والبصيرة في الدين والمستميتين وهم فرسان العرب وأبطالهم المتميزون بالنجدة والشجاعة شهدت لهم الوقائع الإسلامية والفتوحات وحروب الجمل وصفين والنهروان بالبطولة، وتحامتهم الأبطال في المعارك وحادت دون لقائهم الكماة، فتيقن أبن سعد أن جيشه الكبير لا يثبت أمام صدمتهم ولا تقف خيله الكثيرة لخيلهم القليلة وليس لجيشه أستماتتهم ولا تبصرهم في دينهم فإنما جله فساق طماعون ومراق مخادعون وإن كانت عندهم حمية العرب وتعصب القبائل الجاهلي فإنه سيندك أمام صدمة التبصر الديني وينهار عند الأحتكاك بأسطوان الأستماتة المحكم، ورصيف التفاني الثابت على اُسسه القويمة.
فرأى من التدبير الفني الحربي والحالة هذه التعويل على الكردسة لعلمه أن أصحابه وإن كثر عددهم وأستكملت عددهم وأضعفوا على جيش الحسين (ع) أضعافاً كثيرة إذا لو قسم ذلك الجيش لكان سهم الواحد من أصحاب الحسين (ع) وحصته من جيش أبن سعد المائة وأكثر حسبما يقتضيه الحساب الحقيقي لكن عزم كل فرد من أفراد هذا الجيش الصغير أقوى بالضعف المضاعف من عزم ذاك العدد المتكانف بالكثرة، وفرق بين من يقاتل طمعاً وخوفاً وتعذيراً وبين من يقاتل تديناً وتبصيراً وأستماتة وتفانياً. وعمر بن سعد وقواده يعرفون شجاعة اصحاب الحسين (ع) وبسالتهم ونجدهم في الحروب معرفه دقيقة، معرفة حقيقية، معرفة واقعية، معرفة تجربة وأختبار لا مجرد ظن وتخمين لما شهدوه وعاينوه من فعالهم في المغازي والفتوحات الإسلامية، فكان الواحد منهم يكاد يلتهم الجيش باسره لولا عوائق القدر وحيلولة القضاء المبرم ومع ذلك فلهم به البطشة الكبرى والنكاية التي لا يمحى ذكرها مدى الأزمان وهم في قدرة ولهم مقدرة أن يأتوا على الجمع بحذافيره والحشد بأسره لولا الظمأ الذي حال بينهم وبين مشاهدة السماء لشدته فكان كالدخان المنعقد في الأجواء.
وقد عضدت تلك البسالة والنجدة وشدة الشكيمة والحفاظ والحيمة بصيرة الدين وصفاء النية في الأعتقاد واليقين وبلوغهم في الإيمان الدرجة القصوى وأرتقائهم في الديانة إلى أرفع المراقي ولهم مع ذلك الرجاء بموعود الله تعالى للمجاهدين في سبيله والثقة بصدق وعده لمن حامى عن دينه ودعا إلى سبيل ربه وهم كذلك مستميتون في سبيل العز، متفانون في إحياء الذكرى الجميلة وقد يبلغ الفرد المستميت ما لا يبلغه الجيش الجرار وقد هزم جيش أبي بلال مرداس الخارجي وهم أربعون جيش زرعة بن أسلم الكلابي وهو الفان وهزم أربعون من البدو جيش عبد العزيز الرشيد الذي لا يقل عدده عن ألفين في عصورنا هذه؛ فالأستماتة لها أثرها ولها مفعوليتها.
وجيش عمر بن سعد خال من البصيرة وقد عدم الإسلامية وسلب روح الإيمان وهو متيقن سواء العاقبة وواثق بتعاسة المنقلب، وله مندوحة النجاة إذا ما فر أو أنهزم. ومن كانت هذه صفته فهو قليل وإن كثير جمعه ضعيف، وإن كمل أستعداده وأتصلت إمداده فإنه لا يثبت أمام الحائز لتلك الصفات وإن قل العدد وأنقطع المدد فإن المتصف بهذا لا يرى إلا الموت إمامه ويعلم أن لا سبيل إلى الحياة وهو مستقبل دار البقاء الآخرة مستدبر دار الفناء الدنيا، معرض عن زهرتها وزهوها، ومتجاف عن نضرتها وغضارتها، فهو يقدم بثبات روح الإيمان إقدام المستميت المتبصر بما هو اثبت من قنن الرواسي وارسى من أركان الشامخات الرواسخ، معقله سيفه، وحصنه رمحه، وأستحكامه بطشه، إذا تلبط الكماة بالأستحكام وتحصن الأبطال بالمعاقل.للمؤلف:
لهم عزمهم حصن حصين وبطشهم
بجيش العدى في الحرب أقوى المعاقل
فسل صحف التاريخ تنبئك إنهم
مساعير من أعلا حماة القبائل
وهم نخبة من خير عدنان عنصرا
ومن يعرب أهل الحفاظ الأماثل
لقد أصحرتهم كالاُسود كريهة
يحامون عن ثقل الهدى والعقائل
رعوا لرسول الله فيهم وصاية
وقد جالدوا عنهم بغاة الغوائل
غداة أثار الغدر حرباً عليهم
فسار بجيش ذا قنا وقنابل
ومن بايعوهم بعد توكيد عهدهم
غدو بين حربي شديد وخاذل
ولم يحفظ العهد الوكيد بنصرهم
سوى نفر غر كرام قلائل
سروا في ركاب السبط للموت عنوة
وما كانت الدنيا لديهم بطائل
فقد بذلوها أنفساً عز مثلها
فداء حسين خير حاف وناعل
وقالوا هي الفردوس لا شيء غيرها
فسيروا إلى ريحانها سير عاجل
فأبن سعد لعنه الله كردس الخيل لهذا الغرض وقد أستشعر أهل الكوفة هذا من أصحاب الحسين (ع) فلذلك أستقبلوهم بكمال الأستعداد خوفاً على عطب جيشهم الكبير واستئصال عددهم الكثير بين ذلك العدد النزر والجيش الصغير فأحتطوا لذلك بكردسة الخيل وقدموا كتائب الرماة ثم كتائب المطاعنة أهل الرماح المشرعة التي لا تقدم على أسنتها الخيل وأضافو إليها أصحاب المقاليع الذي يقذفون الحجارة بالمقلاع ومع ذلك كله فقد استبان الخلل في الكوفيين وظهر عياناً عند المقاومة وساعة الألتحام، وإن تلك الخيل المكردسة كراديساً أو كما تقول العوام (سربه) للخيل ((وصمصوم)) للرجالة فإن العشرة آلاف فرس المكردسة والعشرون ألفاً المشاة أنهارت أمام حملات أصحاب الحسين (ع) وأختلت أنظمتها وسبعون فارساً يقاوم عشرة آلاف فارس أو أكثر كما قال السيد الهندي (رحمه الله) في أستنهاض الإمام المهدي المنتظر (ع) ويرثي بلك جده الحسين (ع):
هب إن جندك معدود فجدك قد
لاقى بسبعين جيشاً ماله عدد
ولهول الصدمة من هجمة السبعين فارساً على العشرة آلاف فارس وأندحار العشرة آلاف أمام السبعين بل الثلاثين أرسل قائد كتائبها وأمير سراياها العام عزرة أبن قيس الأحمسي إلى القائد العام عمر بن سعد يشكو إليه عدم ثبات خيله أمام هذه الخيل اليسيرة ويستنجده ويستعين به في تقوية خيله بالقوة المرامية وهي عشرة آلاف لتعقر الخيول التي يمتطيها أصحاب الحسين (ع) وهذا لفظ الطبري في تاريخه(1): وقاتلهم أصحاب الحسين (ع) قتالاً شديداً وأخذت خيلهم تحمل وإنما هم إثنان وثلاثون فارساً، وأخذت لا تحمل على جانب من خيل أهل الكوفة إلا كشفته فلما رأى ذلك عزرة بن قيس وهو على خيل أهل الكوفة وإن خيله تنكشف من كل جانب بعث إلى عمر بن سعد عبد الرحمن بن حسن فقال: أماترى ما تلقي خيلي منذ اليوم من هذه العدة اليسيرة، إبعث إليهم الرجال والرماة. فقال لشبث بن ربعي: ألا تقدم إليهم بالرماحة؟ فقال: سبحان الله! أتعمد إلى شيخ مضر وأهل المصر عامة تبعثه في الرماة لم تجد من تندب لهذا أو يجزي عنك غيري؟ قلا: وما زالوا يرون من شبث الكراهة لقتاله.
قال أبو زهير العبسي: أنا سمعته في إمارة مصعب يقول: لا يعطي الله أهل هذا المصر خيراً أبداً ولا يسددهم لرشد، ألا تعجبون إنا قاتلنا مع علي بن أبي طالب ومع أبنه من بعده آل أبي سفيان خمس سنين ثم عدونا على أبنه وهو خير أهل الارض نقاتله مع آل معاوية وأبن سمية الزانية ضلال يالك من ضلال!
قال: ودعا عمر بن سعد الحصين بن تميم فبعث معه المجففة وهم خمسمائة من المرامية فأقبلوا حتى إذا دنوا من الحسين (ع) وأصحابه رشقوهم بالنبل فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم وصار رجالة.
فهذا قائد كتائب الخيالة وسرايا الفرسان يستغيث بأمير الاُمرار وقائد القوات العام من سرية خيل عدد فرسانها إثنان وثلاثون ما صبرت كتائبه وسراياه لها حتى عززت قوته بقوة المرامية من أصحاب الأقواس والمقاليع الذين يقذفون الحجارة والسهام وهم عشرة آلاف على ما رواه غير الطبري.
وهذا قائد المجنبة اليمنى عمر بن الحجاج الزبيدي يهجن عقل أصحابه ويقيل رأيهم ويستحمقهم في المبارزة لأصحاب الحسين (ع) لأنه قد عاين أنه ما برز منهم أحد لأصحاب الحسين (ع) إلا وقتل وكان خبيراً ببطولتهم وفروسيتهم وعارفاً بشجاعتهم المدهشة حيث كانت تجمعه وإياهم الملاحم في الفتوحات والمغازي وأيام الجمل وصفين والنهروان فلهذا يتقدم لأصحابه بالنصيحة وينذرهم بالخطر في مبارزتهم ويعرفهم أنه سفه وأغترار كما تحدث الطبري في التاريخ(2) بما نصه: فصاح عمرو بن الحجاج بالناس: ياحمقاء! أتدرون لمن تقاتلون؟ فرسان المصر قوماً مستمتين لا يبرزن لهم منكم أحد فإنهم قليل وقل ما يبقون، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم، فقال عمر بن سعد: صدقت الرأي ما رأيت وأرسل إلى الناس يعزم عليهم لا يبارز رجل منكم رجلاً منهم ألخ.
وخذ إليك نبذة من أعتراف أهل الكوفة بتفوق أصحاب الحسين (ع) شجاعة ونجدة في الأفراد والجماعة كل ذلك عن تاريخ الطبري:
منها قول شبث بن ربعي التميمي في مسلم بن عوسجة الأسدي في قصة استشهاده رضوان الله عليه، قال(3): فصاحت جارية له فقالت: يابن عوسجتاه! يا سيداه! فقال أصحاب عمرو بن الحجاج: قتلنا مسلم بن عوسجة الأسدي، فقال شبث: ثكلتكم اُمهاتكم إنما تقتلون أنفسكم بأيديكم وتذللون أنفسكم لغيركم، تفرحون أن يقتل مثلم مسلم بن عوسجة، أما والذي أسلمت له لرب موقف له قد رأيته في المسلمين كريم، لقد رأيته يوم سلق أذربيجان قتل ستة من المشركين قبل أن تتام خيول المسلمين، أفيقتل منكم مثله وتفرحون؟!
وقول أيوب بن مشرح الهمداني الخيواني في الحر بن يزيد اليربوعي الرياحي واللفظ(4): إن أيوب بن مشرح الخيواني كان يقول: أنا والله عقرت بالحر بن يزيد فرسه حشاته سهماً فما لبث أن أرعد الفرس وأضطرب وكبا فوثب الحر عنه كأنه ليث والسيف في يده وهو يقول:
إن تعقروا بي فإنا أبن الحر
أشجع من ذي ليث لبد هزبر
قال: فما رأيت أحداً قط يفري فريه. قال: فقال له اشياخ من الحي: أنت قتلته؟ قال: لا والله ما أنا قتلته ولكن قتله غيري وما اُحب أني قتلته، فقال له أبو الوداك، ولم؟ قال: زعموا أنه كان من الصالحين فوالله لئن كان ذلك إثماً لأن ألقى الله بإثم الجراحة والموقف أحب إلي من أن ألقاه بإثم قتل واحد منه، فقال له أبو الوداك: ما أراك إلا ستلقى الله بإثم قتلهم أجمعين، أرأيت لو أنك رميت هذا فعقرت ذا ورميت آخر ووقفت موقفاً وكررت عليهم وحرضت أصحابك وكثرت أصحابك وحمل عليك فكرهت أن تفر وفعل آخر من أصحابك وكثرت أصحابك كفعلك وآخر وآخر كان هذا وأصحابه يقتلون أنتم شركاء كلكم في دمائهم، فقال له: يا أبا الوداك! إنك لتقنطنا من رحمة الله وإن كنت ولي حسابنا يوم القيامة فلا غفر اله لك إن غفرت لنا، قال: هو ما أقول لك، إنتهى.
أبوك الوداك هذا هو أبن نوف البكالي صاحب أمير المؤمنين (ع) وكان أبوك الوداك كأبيه نوف شيعياً وله بلاء عظيم في حروب الطلب بثار الحسين (ع) أيام المختار، ترجمناه في كتابنا ((الميزان الراجح)) تجد هناك أخباره.
ومنها قول ربيع بن تميم الهمداني من أهل الكوفة في عابس بن أبي شبيب الهمداني الشاكري ولفظه(5): عن رجل من همدان يقال له ربيع بن تميم شهد ذلك اليوم قال: لما رأيته مقبلاً عرفته وقد شاهدته في المغازي وان أشجع الناس، فقلت: أيها الناس! هذا أسد الاسود، هذا أبن ابي شبيب لا يخرجن إليه أحد منكم، فأخذ ينادي: ألا رجل لرجل؟ فقال عمر بن سعد لعنه الله: إرضخوه بالحجارة، قال: فرمي بالحجارة من كل جانب فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره ثم شد على الناس فوالله لرأيته يكرد أكثر من مأتين من الناس ثم إنهم تعطفوا عليه من كل جانب فقتل، قال: فرايت رأسه في أيدي رجال ذوي عدة هذا يقول أنا قتلته وهذا يقول أنا قتلته، فأتوا عمر بن سعد لعنه الله فقال: لا تختصموا، هذا لم يقتله سنان واحد ففرق بينهم بهذا القول، إنتهى، وفي رواية غيره: لم يتقله إنسان واحد.
وهل حدثك التاريخ في غابره وحاضره مثل هذا الرجل؟ إن الابطال مهما بلغوا في البطولة يعتصمون بالحصون والمعاقل ويتخذون الأدراع والمغافر للوقاية حتى أن بعضهم ليظاهر بين درعين ويلبس بيضتين أو بيضة ومغفراً، وهذا البطل المستميت يلقى درعه ويرمي مغفره وترسه عجب في البطولة وفريد في الرجولية.
ومنها قول قاتل برير بن حضير الهمداني المشرقي وخذ القضية بنصها وطولها(6): عن عفيف بن زهير بن الأخنس وكان شهد مقتل الحسين (ع) قال: وخرج يزيد بن معقل من بني عميرة من ربيعة وهو حليف لبني سليمة من عبد القيس فقال: يابرير! كيف ترى صنع الله بك؟ قال: صنع الله والله بي خيراً وصنع بك شراً، قال: كذبت وقبل اليوم ما كنت كذوباً، هل تذكر وأنا اُماشيك في بني
لوذان وأنت تقول إن عثمان بن عفان كان على نفسه مسرفاً وإن معاوية بن أبي سفيان ضال مضل، وإن إمام الهدى والحق علي بن أبي طالب؟ فقال برير: أشهد أن هذا رأيي وقولي، فقال يزيد بن معقل: أشهد أنك من الضالين، فقال برير بن حضير: هل لك فلاُباهلك ولندعو الله أن يلعن الكاذب ويقتل المبطل ثم أخرج فلاُبارزك.
قال: فخرجا فرفعا أيديهما إلى الله يدعوانه أن يلعن الكاذب وأن يقتل المحق المبطل ثم برز كل واحد منهما إلى صاحبه فأختلفا ضربتين فضرب يزيد بن معقل بريراً ضربة خفيفة لم تضره شيئاً وضربه برير بن حضير ضربة قدت المغفر وبلغت الدماغ فخر كأنما هوى من حالق وإن سيف أبن حضير لثابت في رأسه فكأني أنظر إليه ينضنضه من رأسه وحمل عليه رضي بن منقد البعدي فأعتنق بريراً فأعتركا ساعة ثم إن بريراً قعد على صدره فقال رضي: اين أهل المصاع والدفاع؟ قال: فذهب كعب بن جاير بن عمرو الأزدي ليحمل عليه فقلت له: هذا برير بن حضير القارئ الذي كان يقرئنا القرآن في المسجد! فحمل عليه برمح حتى وضعه في ظهره فلما وجد مس الرمح برك عليه فعض بوجهه وقطع طرف أنفه فطعنه كعب بن جابر حتى ألقاه عنه وقد غيب ألسنان في ظهره ثم أقبل عليه يضربه بسيفه حتى قتله.
قال عفيف: كأني أنظر إلى العبدي الصريع قام ينفض التراب عن قبائه ويقول: أنعمت علي يا أخا الأزد لا أنساها ابداً.
قال: فقلت: أنت رأيت هذا؟ قال: نعم رأي عيني وسماع اُذني.
فلما رجع كعب بن جابر قالت له أمرأته أو اُخته النوار بنت جابر: أعنت على أبن رسول الله وقتلت سيد القراء؟! لقد أتيت عظيماً من الأمر والله لا اُكلمك من رأسي كلمة أبداً. وقال كعب بن جابر:
سلي تخبري عني وأنت ذميمة
غداة حسين والرماح شوارع
ألم آت أقصى ما كرهت ولم يخل
علي غداة الروع ما أنا صانع
معي يزني لم تخنه كعوبه
وأبيض مخشوب الغرارين قاطع
فجردته في عصبه ليس دينهم
بديني وإني بابن حرب لقانع
ولم ترى عيني مثلهم في زمانهم
ولا قبلهم في الناس إذا أنا ياقع
أشد قراعاً بالسيوف لدى الوغى
ألا كل من يحمي الذمار مقارع
وقد صبروا للطعن والضرب حسراً
وقد نازلوا لو أن ذلك نافع
فابلغ عبيد الله إما لقيته
بأني مطيع للخليفة سامع
قتلت بريراً ثم حملت نعمة
أبا منقذ لما دعا من يماصع
قال: وزعموا أن رضي بن منقذ العبدي رد بعد على كعب بن جابر قوله فقال:
فلو شاء ربي ما شهدت قتالهم
ولا جعل النعماء عند أبن جابر
لقد كان ذاك اليوم عاراً وسبة
تعيره الأبناء بعد المعاشر
فياليت إني كنت من قبل قتله
ويوم حسين كنت في رمس قابر
وللمؤلف يرد على كعب بن جابر قوله السباق بقوله:
أيا كعب كعب الكلب شر عظامه
نباحك في غاب الضراغم ضائع
تبجحت في لدن الكعوب ومرهف
وما ذاك في نادى المفاخر نافع
تجرده فيمن تخالف دينهم
فمالك منهم أيها الرجس شافع
ودينهموا دين الإله ووحيه
بابياتهم يتلى وتملى الشرائع
وحسبك إذ خلفتهم متديناً
بدين أبن حرب للصلاح تنازع
أبوه أبو سفيان خصم لجدهم
وللشر في نفس أبن حب منازع
فهاجر عنهم نحو طيبة فأحتمى
بأنصاره إذا لم ترعه الروائع
وعيناك لم تنظر شبيهاً من الورى
لعصبة حق عن حسين تدافع
ولا نظرت عينا سواك مثيلهم
ومظهر أفذاذ الرجال الوقائع
قتلت بريراً مستطيلاً بقتله
ففخرك مردود عليك وضائع
فلو كنت قرماً يحتمي الذم لم تجئ
على غرة للؤم فيك مشارع
لقد جئته مستدبراً فطعنته
وليث الشرى فوق الفريسة راكع
فهلاً لك الخزي الطويل أذنته
ليعلم أي الفارسين الممانع
ولو كانت الاُنثى مكانك أدركت
فقد كان ألهاه الكمي المصارع
وتدعو عبيد الله عبداً مجدعاً
وليس ندا أهل الشقاوة نافع
ومنها ما رواه الطبري في غير موضع وغيره من العلماء أن بعض أهل الكوفة لام صديقاً له ممن شهد قتل الحسين (ع) وقال له: قتلتم أبن رسول الله (ص) والعباد الصالحين وقراء أهل المصر! فقال: ثارت إلينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها لو ونينا عنهم ساعة لأتوا على الجمع بحذافيره فما نصنع لا اُم لك؟ إنتهى وكفاك هذا المقدار.
وسائل الظفر التي أتخذها جيش العدو:
إن ابن سعد لعنه الله كان على يقين من أن كثرة جمعه لا تجديه نفعاً في مقاومة هؤلاء الكرام الذين هم نخبة العالم وصفوة الإنسانية وزبدة البشرية ولباب الكائن في ذاك العصر ومن هذه الوجهة حكمت التجارب الحربية في نفسه كردسة الخيل وتقديم المرامية والتطويق والحصار ومنع المنازلة وإلقاء الذعر في نفوس النساء والصبيان بكل ما وجد إليه سبيلاً ليوهن عزم المحاربين وأمثال هذه.
أما اللعين أبن زياد فقد كان من أوثق عرى الغلبة عنده وأقوى حبال الظفر في نفسه حتى من جيشه الجرار الذي ملأ الفضاء وسد الآفاق منع الحسين (ع) وأصحابه الماء لأعتقاده أن هذه العدة اليسيرة في جيش الحسين (ع) وإن قلت، والعصبة المستنزرة العدد التي قطع مددها ولم تستكمل أهبتها وعددها لا يقاومها مقاوم فلا وسيلة أقرب إلى القضاء عليها سريعاً وإبادتها عاجلاً وإتلافها باسرع وقت إلا يمنعها من ورد الماء لتموت عطشاً فإن الحياة لا بقاء لها مع العطش ولا يمكن أن يعيش ذو روح بغير ماء وخصوصاً الإنسان فكانت هذه النية الخبيثة والفكرة الملعونة تختلج نفسه الشريرة أنها ستكون من أهم التحوطات وأقوى وسائل الدفاع في نفس ذلك الشيطان المتمرد واللقيط الجبار، والدعي المنبوذ بأقبح الالقاب فصدر أمره الرسمي إلى أمير اُمرائه وقائد قواته المرتكس في الضلال عمر بن سعد: أما بعد؛ فحل بين الحسين وأصحابه وبين الماء وأمنعهم أن يذوقوا منه قطرة ألخ.
فبادر أبن سعد على الفور لأمتثال ذلك الأمر القاسي بتنظيم الحرس على الشرائع الاربعة فنظمها كما سمعت وقواها بالأسلحة وجعل لها قوات إضافية أحتياطية فلم يضعضع ذلك أصحاب الحسين (ع) ولا أدخل وهنا عليهم بل زادهم بصيرة وثباتأً وعزماً ونشاطاً فتقوت عزائمهم وإن ضعفت الأبدان وقد صار العطش بينهم وبين السماء كالدخان لكن صرخة النساء وضجة الأطفال الذين نفذ صبرهم لشدة الظمأ أثرت في أنفسهم كسراً وفي قلوبهم صدعاً وجرحاً لا يندمل كما ينبئ عنه كلام عميدة العباس بن علي (ع) في قوله لأخيه الحسين كما سمعته سابقاً.
لكن قابلوا هذه الشدة الشديدة والمحنة الصعبة العظيمة بالصبر والأحتساب لكل ما أصابهم في جنب الله، إن أمتلاك الشريعة والغلبة على الماء وتقوية حرسه بالأستحكامات المنيعة وحمايته بالقوة القوية التي لا يتمكن المقابل من خرق خطوطها الأمامية ولا الأستيلاء عليها له الأثر التام في الرجحان الحربي وإنه الكفيل بتفوق من ملك الماء وضمين له بالغلبة إذا أستحكمه أستحكاماً منيعاً وجعل عليه خط دفاع قوي يصد هجمة المقابل فإن الرجحان الحربي يكون له لأن نفوس من منعو الماء تضعف وهممهم تقل وعزائمهم تنكسر وتهن، وإن كانوا غلبين أبتداء يصبحوا مغلوبين بالتالي بهذا قضت التجاربت ودلت الأختبارات العديدة.
حيث أن الماء ضروري للحياة وهو مادة البقاء وجزؤها المقوم كما يكون زيت البترول أو النفط مادة المصابيح، والبطل وغيره إذا أصابه العطش الشديد ربما يصل إلى درجة لا يكاد يبصر ما أمامه وما خلفه وقد لا يقوي على حمل السلاح فضلاً عن المجالدة وربما تلف كما تلف كثيرون ممن أحتال عليهم أعداؤهم فاضلوهم في المفاوز العديمة المياه فهلكوا عطشاً كشمر بن أفريقس الحميري أحد الملوك التبابعة من عرب اليمن ففي أساطير التاريخ العربي إنه أضله الدليل في مفاوز التبت فهلك، وكفيروز الساساني ملك الفرس الذي أضله دليله في بعض صحاري الهياطلة وغيرهما مما هو مدرج في التاريخ العربي والفارسي.
وسواء كانت هذه اساطير تاريخية كما يزعمه المتجددون أم وقائع حقيقية إنها لقضية مسلمة وظاهرة وجدانية يعرفها كل أحد لذلك كانت اُمية الفاجرة تستغل هذه الفرصة الهمجية وتستعمل هذه الأعمال المنكرة القبيحة القاسية الفظة الصارمة المخالفة لمناهج الإنسانية المحضورة في الديانة السماوية فلا يزالون يحصرون أعدائهم في البوادي والمفاوز إذا سبقوا إلى شرائع الماء ويصرون على منعهم من ورد المباح