أولهم الإمام أمير المؤمنين وآخرهم الإمام الرضا والصادقان محمد بن علي وجعفر بن محمد عليهم جميعاً صلوات الله. وبالرغم من أن جميع أئمة الهدى نشروا العلم، إلاّ أن الظروف ساعدت هؤلاء الأربعة على ذلك أكثر من الآخرين. نقل عن اليقطيني أنه قال: لما اختلف الناس في أمر أبي الحسن الرضا جمعت من مسائله مما سئل عنه وأجاب عنه خمس عشرة ألف مسألة ".
ولقد قال الإمام مرة: " كنت أجلس في الروضة والعلماء بالمدينة متوافرون، فإذا أعيا الواحد منهم عن مسألة أشاروا إلي بأجمعهم وبعثوا إلي بالمسائل فأجيب عنها ". وقد بدأ بالفتيا في مسجد الرسول، وعمره الشريف نيف وعشرون عاماً. ولنعرف دور الإمام الرضا في هذا الحقل لابد أن نعود قليلاً إلى الوراء، لنعرف أن الحزب العباسي الذي تسلط على رقاب المسلمين بعد الفراغ السياسي الذي أحدثه غياب السلطة الأموية قد وجد نفسه أمام تيارات سياسية معارضة، تعتمد على الفكر، وتتسلح بالنظريات الثقافية، وفي طليعتها التيار العلوي الذي كان يقود المعارضة السياسية إلى جنب قيادة الساحة الفكرية، والحزب العباسي الذي كان يعيش خواءً نظرياً قاتلاً لم يجد حيلةً إلاّ البحث عن مصادر خارجية للثقافة، فشجع حركة الترجمة وتوجه إلى الكتب الفلسفية قبل الكتب العلمية، وبنشاط هذه الحركة حدث في الأمة اضطراب فكري وتوتر ثقافي مما أضحى يهدد وحدة الأمة. وكانت عوامل شتى تساهم في هذا الخطر:
اولاً: انشغال المفكرين بالقضايا السياسية.
ثانياً: ازدياد الإضراب السياسي، والحروب الداخلية التي تجر بطبيعتها الأمة إلى المزيد من التوتر الفكري.
ثالثاً: وجود تيارات غريبة عن الأمة كان هدفها إفساد ثقافة المجتمع ومحاربة الإسلام باسم الإسلام، والتي كانت تغذيها حركات سياسية متصلة بالكفار.
وفي عهد المأمون العباسي بلغ الإضطراب الفكري قمته مما دفع الإمام الرضا عليه السلام بالتصدي لها. وقد ساعده في ذلك انتقاله إلى حاضرة البلاد الإسلامية، وقبوله لولاية العهد مما جعله في قلب الصراعات الفكرية.
وهكذا كثرت حواراته مع سائر الملل والمذاهب، مما حدى بعلمائنا الكرام إفراد كتب حول ما روي عنه عليه السلام، مثل ما فعل الصدوق رحمه الله في كتابه عيون أخبار الرضا. وحينما نتدبر في كلمات الإمام الرضا وحججه التي ألقاها على خصوم الإسلام أو مخالفي المذهب نراها تتسم بمنهجية علمية عميقة. مما يدل على مستوى الثقافة في عصره لأن الأئمة - كالأنبياء عليهم جميعاً صلوات الله- إنما يكلمون الناس على قدر عقولهم، وبمستوى أفكارهم. كذلك نستوحي من التأمل في كلماته أنها كانت تصد تشكيكات يبثها الأعداء حول الإسلام وبالذات حول عقلانية أحكامه، من هنا كثرحديثه عن علل الشرائع، والحكم التي وراء أحكام الدين. كما أن طائفة من كلماته المضيئة تعالج الشؤون الحياتية مثل رسالته الطبية المعروفة بطب الرضا عليه السلام.
ومما يميز حياة الإمام الرضا عليه السلام العلمية أن كلماته كانت تلقى قبولاً في كافة الأوساط الإسلامية، ولعل ورود مدينة نيسابور التي كانت من الحواضر العلمية في العالم الإسلامي أظهرت مدى اهتمام علماء الإسلام بأحاديث الإمام، دعنا نستمع إلى هذه القصة الطريفة:
(لما دخل إلى نيسابور في السفرة التي فاض فيها بفضيلة الشهادة، كان في مهد على بغلة شهباء عليها مركب من فضة خالصة، فعرض له في السوق الإمامان الحافظان للأحاديث النبوية أبو زرعة ومحمد بن أسلم الطوسي رحمهما الله فقالا: أيها السيد ابن السادة، أيها الإمام وابن الأئمة أيها السلالة الطاهرة الرضية، أيها الخلاصة الزاكية النبوية بحق آبائك الأطهرين وأسلافك الأكرمين إلاّ أريتنا وجهك المبارك الميمون، ورويت لنا حديثاً عن آبائك عن جدك، نَذْكُرك به. فاستوقف البغلة، ورفع المظلة، وأقر عيون المسلمين بطلعته المباركة الميمونة، فكانت ذؤابتاه كذؤابتي رسول الله صلى الله عليه و آله فقال عليه السلام: "حدثني أبي موسى بن جعفر الكاظم، قال: حدثني أبي جعفر بن محمد الصادق قال: حدثني أبي محمد بن علي الباقر، قال: حدثني أبي علي بن الحسين زين العابدين، قال: حدثني أبي الحسين بن علي شهيد أرض كربلاء، قال: حدثني أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب شهيد أرض الكوفة، قال: حدثني أخي وابن عمي محمد رسول الله صلى الله عليه و آله قال: حدثني جبرائيل عليه السلام قال: سمعت رب العزة سبحانه وتعالى يقول:(كلمة لا إله إلاّ الله حصني فمن قالها دخل حصني، ومن دخل حصني أمن من عذابي) ".
مدرسة الإمام الرضا عليه السلام
يتراوح عدد الرواة عن الإمام الرضا عليه السلام كما جاء في المصادر الموجودة بأيدينا بين 313 الى 367 راوياً. وهؤلاء يعتبرون طلاّب مدرسته والمتخرجين على يديه. وقد أحصى عددهم صاحب مسند الإمام الرضا وترجم لِـ 313 راوياً منهم بشكل موجز جدّاً استناداً الى ما جاء لهم من ذكر في أسناد روايات المسند. على أن الشيخ الطوسي رضي الله عنه قد ذكر ثلاثمائة وخمسة عشر رجلاً من أصحاب الإمام الرضا عليه السلام، بينما أنهاهم الشيخ باقر شريف القرشي الى 367 راوياً.
ونظرة سريعة إلى مسند الإمام الرضا عليه السلام تعطينا صورة اجمالية عن اتجاهات مدرسة الإمام الرضا عليه السلام وملامح عصره في مجالات التربية العلمية والاخلاقية كما كانت تتطلّبها الظروف التي عاشها الإمام عليه السلام هذا فضلاً عن الإعداد الخاص للمستقبل القريب والبعيد الذي كان قد خطط له الائمة من أهل البيت عليهم السلام كما هو واضح لمن يتدبّر مجموع ما صدر عنهم من نصوص وما تضمّنتها من التوجيه الى آفاق المستقبل المشرق الذي ينتظر أتباع أهل البيت عليهم السلام وهم الجماعة الصالحة التي التزمت خطّهم الفكري والسياسي وأصرّت على التضحية في سبيل العقيدة الصحيحة والمبدأ الحق. وقد ازداد النشاط العلمي لشيعة أهل البيت عليهم السلام في هذا العصر وتمثّل في كثرة التأليف والتدوين، والتدريس والرواية وشمل جميع الحقول المعرفية المعروفة آنذاك.
كما ازداد عدد الأفراد المنتمين لمدرسة الفقهاء الرواة من أتباع أهل البيت عليهم السلام ازدياداً ملحوظاً، ونلمس ذلك بوضوح من خلال عدد رواة الإمام الرضا عليه السلام حيث تكشف قائمة الرواة عن مدى الاهتمام منهم بانتهال العلم من مدرسة الإمام الرضا عليه السلام الرسالية في عصره، لا سيّما إذا لاحظنا تنوّع مستوياتهم وتنوّع اتجاهاتهم وتنوع بلدانهم واهتماماتهم العلمية من خلال تنوع الاسئلة والمجالات التي رووا فيها الأحاديث عن الإمام الرضا عليه السلام.