ولا غرو في ذلك فمن الطبيعي أن يكون الإمام المنصوص عليه من قبل الله تعالى متّصفاً بصفات لا تتوفر عند أحد من الناس, ولا بد أن يكون (ع) أعلم الناس وأعدلهم وأزهدهم وأفقههم وأكملهم في أخلاقه وشيمه وجميع صفاته، وهذا ما يلمسه المتتبع لتاريخ الأئمة الطاهرين من أهل البيت (ع) والمستقرئ لحياتهم ومنهجهم من خلال مواقفهم وأحاديثهم وما رُوي عنهم.
وسنقتصر هنا ببعض هذه الأحاديث والمواقف فيما يخص الإمام الثامن علي بن موسى الرضا (ع).
كان (ع) قدوة في الأخلاق الفاضلة والأدب العالي الرفيع يقول أحد معاصريه وهو إبراهيم بن العباس الصولي في وصفه:
(ما رأيت أبا الحسن الرضا عليه السلام جفا أحداً بكلامه قط, وما رأيته قطع على أحد كلامه قط حتى يفرغ منه, وما ردّ أحداً عن حاجة يقدر عليها, وما مدّ رجليه بين جليس له قط, ولا اتّكأ بين يدي جليس له قط, ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط, ولا رأيته تفل قط, ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط, بل كان ضحكه التبسّم, وكان إذا خلا ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه حتى البواب والسائس وكان عليه السلام قليل النوم بالليل كثير السهر، يحيي أكثر لياليه من أولها إلى الصبح، وكان كثير الصيام فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، وهي الخميس من أول كل شهر وآخره، والأربعاء من وسط الشهر ويقول: ذلك صوم الدهر, وكان عليه السلام كثير المعروف والصدقة في السر، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة فمن زعم انه رأى مثله في فضله فلا تصدقوه)
وهذا الحديث يعطي دلالة على شخصية الإمام (ع) ومقوّماته الأخلاقية التي انسجمت تماماَ مع رسالته فجسّدها عملاً رسالياً تسنم به قمة الكمال الإنساني وأرتفع إلى مشارف العظمة الذاتية, فحينما يجلس الإمام (ع) إلى مائدته ومن حوله مماليكه وبوّابه وسائس دوابه ليس إلا ليعطي الأمة درساً في الإنسانية الفاضلة التي تؤمن بكرامة الإنسان وليعرض نظرية الإسلام عملياً في طبيعة السلوك الذي يجب أن يعتمده الإنسان مهما كان مركزه مع أخيه الإنسان.
إن رفعة المقام وسمو المركز لا يستدعيان أن يحتقر الإنسان من دونه في ذلك أو يشعره بوضاعة شخصيته فتتسع الهوة بين أفراد الأمة ويتوزّع كيانها في فصائل متنافرة يمزقها الحقد وتنهشها البغضاء فهذه النماذج العملية من أخلاقه وإنسانيته (ع) والتي استمدها ميراثاً نقياً يعبق بالرحمة من جده الرسول الأعظم (ص) وآبائه الطاهرين (ع) هي التي تستمد الأمم قوتها منها وتبني عليها دعائم مجدها وتضمن بها ديمومتها.
وهناك أحاديث أخرى على لسان معاصريه تجسدت فيها أخلاقه (ع) وإنسانيته في تعامله مع الفقراء والخدم فلا ينظر إليهم إلا بعين الإخوة في الله ووحدة النوع الإسلامي ولا يفاضل بين نفسه وغيره ألا بالتقوى.
يقول إبراهيم بن العباس سمعت علي بن موسى الرضا (ع) يقول: حلفت بالعتق ولا أحلف بالعتق إلا عتقت رقبة, وأعتقت بعدها جميع ما أملك إن كان يرى أنه خير من هذا ــ وأومأ إلى عبد أسود من غلمانه ــ إذا كان ذلك بقرابة من رسول الله (ص) إلا أن يكون له عمل صالح فأكون أفضل به منه
كان (ع) يزرع في نفوس الضعفاء والمستضعفين الأمل بالحياة الحرة الكريمة البعيدة عن التمايز العنصري والتفاوت الطبقي فكان كثير الإحسان والبر إلى العبيد لكي (لا يتبيغ بالفقير فقره) كما يقول أمير المؤمنين (ع) ونستشف من رواية أبي الصلت الهروي على مدى عنايته (ع) بهذه الفئة التي لم تجد اليد التي تحنو عليها سوى يد الإمام حيث يروي عن رجل من أهل بلخ قوله: (كنت مع الإمام الرضا (ع) في سفره إلى خراسان فدعا يوما بمائدة فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم فقلت: جعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة فأنكر عليه ذلك وقال له:
إن الرب تبارك وتعالى واحد, والأم واحدة, والأب واحد والجزاء بالأعمال
كما شهد له بهذا الخلق العظيم حتى أعدائه فعندما أرسل المأمون قائده رجاء بن أبي الضحاك لإحضار الرضا (ع) من المدينة إلى مرو سأله المأمون عن أحواله (ع) في الطريق فقال له:
(والله ما رأيت رجلاً كان أتقى لله منه ولا أكثر ذكراً له في جميع أوقاته ولا أشد خوفاً لله عز وجل... كان لا ينزل بلداً إلا قصده الناس يستفتونه في معالم دينهم، فيجيبهم ويحدثهم الكثير عن آبائه عن علي عن رسول الله (ص) فقال له المأمون: بلى يا أبن أبي الضحاك هذا خير أهل الأرض وأعلمهم وأعبدهم.
لقد كان الإمام الرضا (ع) إسلاماً يمشي على الأرض وقرآناً يصدح بالحق.
محمد طاهر الصفار