وصدرت بيانات وتصريحات واستنكارات لا حد ولا حصر لها، وهذا ما وجدته في خصوص موضوع المليون دونم التي زعموا -- و يزعمون -- أن الحكومة العراقية قد سلمتها الى السعودية وأن الاخيرة احتلتها!! واستغلتها !!وأن تربية البقر وانتاج الألبان فيها صار يهدد العتبات المقدسة والمذهب والطائفة والدنيا والآخرة!!
تذكرتُ تمثيلية للأديب الانجليزي وليام شكسبير عنوانها (ضجة كبرى بلا سبب) وقد أنجزها هذا الكاتب العملاق حوالي العام 1598_ 1600 للميلاد و لاحقاً تم انتاجها كفيلم سينمائي في العام 1993 ميلادي تحت عنوان:
من قبل المخرج كنت برانا بلغت تكاليفه11 مليون دولار، و قبل ذلك كانت تلك الفكرة مثلاً في أدب العرب (أسمع جعجة بلا طحن) والعجم (هَياهُويْ بِسْيَار بَرايِ هِيجْ) .
عندما قررت التحقيق والبحث في موضوع مشروع تربية البقر وانتاج مشتقات الألبان واللحوم في صحراء العراق عادت بي الذاكرة الى سنوات عملي الدبلوماسي في الدوحة فتذكرت أن قطر قامت باستئجار واستثمار مساحات واسعة ومناطق شاسعة من الأراضي الزراعية الخصبة في السودان وتونس وعدة دول أخرى لزراعة وانتاج المحاصيل الزراعية للاستهلاك المحلي بقطر وحتى لاستهلاك مواطني السودان وتلك البلدان وتصدير الفائض منه، مما يوفر عشرات الآلاف من فرص العمل للسودانيين في تلك المزارع وينفع العباد والبلاد، وتديرها (من بعيد ) مؤسسة حصاد الغذائية ويتولى الإدارة الفعلية للمشروع مهندسون ومديرون وكوادر وعمال من مواطني ذلك البلد صاحب الارض يستلمون رواتب مجزية بالعملة الصعبة ،وعندما تنتهي مدة المشروع فإن عائدية الارض للبلد نفسه والمزارع التي أقيمت؛ تبقى للدولة الواقعة فيها وهي ليست مستعمرة ولا مملوكة لقطر.
ولا أدري كيف اكتسبت تلك الاراضي العراقية الرملية الصحراوية الشاسعة --فجأةً-- قيمة عليا واصبحت عزيزة وثمينة لدى البعض بعد أن كانت لعشرات بل مئات القرون صحارى جرداء مهجورة ومتروكة ومنسية ولا ينبت فيها سوى العشب الشوكي الطبيعي النمو الصالح للجِمال فقط وتهبّ منها العواصف الرملية.
ولكن بمجرد أن طُرحت "فكرة" استثمارها والاستفادة منها أصبحت قيمتها كالذهب الخالص والالماس وأصبح تأجيرها لمشروع تربية البقر (بأيدي آلاف المواطنين العراقيين العاطلين الفقراء) يهدد المرجعية والاسلام والتشيع والعقيدة والأمن الوطني ويستهدف التقسيم واحتلال العراق ووو.
للأسف؛ كلها تهويلات ومبالغات وتنبؤات لم تُبنَ على أي أساس من الصحة ،وعندما تبينت الحقيقة وانتفت فكرة استثمار تلك الصحراء أُهمِلَت الصحراء مجدداً وبقيت مُقفِرة مهجورة بلا أي انتفاع واستثمار.
اليوم ؛ فوجئتُ بأن وزير الزراعة والموارد المائية (العراقي) محمد كريم الخفاجي كشف الحقيقة في لقاء مصور بالصوت والصورة مؤكداً بأن (فكرة) المشروع لم يكن ليتسنى تنفيذها لقلة المياه في تلك المنطقة ، وأن البلدين لم يتفقا أساساً عليها ، ولم يخطُ الجانبان خطوة واحدة لتنفيذها.
نعم، الحذر واجب لكن ينبغي أن لا نقلب الدنيا بالصراخ والتهويل بلا سبب اقتصادي وجيه، دون أن نستفيد من الفرص المتاحة والامكانات المتوفرة لمصلحة نهوض اقتصاد العراق ؛ فإما أن تنتفعوا من تلك الصحراء بمستثمرين عراقيين او افسحوا المجال لمن يستطيع أن يستثمرها وينفع بها العراق والعراقيين ، حتى لو لم يكن المستثمر من ديننا ومذهبنا.
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:
[ إذا أمكنَتِ الفرصَةُ فَانتَهِزها ، فَإنّ إضاعَةَ الفُرصَة غُصّة]
بقلم: الدكتور رعد هادي جبارة / باحث إسلامي ودبلوماسي سابق.