الدولار بات أداة لتجويع الشعوب وإذلال الحكومات وتركيعها، وتدمير اقتصادياتها، الأمر الذي أدى إلى تصاعد الأصوات الناقدة التي تؤكد على تآكل النظام المالي العالمي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، واعتمد العملة الأمريكية عموده الفقري، والمطالبة بنظام مالي عالمي جديد تعددي، يقوم على سلة من العملات، مثل اليورو والإسترليني والين الياباني، واليوان الصيني، والروبل الروسي.
من اللافت أن هيمنة الدولار الأمريكي يستمد قوته من كونه يشكل 60 بالمئة من الاحتياطات العالمية وأكثر من 85 بالمئة من حركة صرف العملات مثلما جاء في تقرير بثته وكالة الأنباء الألمانية "دوتش فيله" مما يعني أن التململ من هذه الهيمنة للعملة الأمريكية وصل إلى قلب أوروبا، ولم يعد مقتصرا على دول"البريكس" والعالم الثالث.
من هنا لم يكن غريبا أن تكون الصين المنافس الأكبر للولايات المتحدة على زعامة الاقتصاد العالمي، رأس الحربة في السباق الذي يسود العالم حاليا لإنهاء هيمنة الدولار، وتحرير العملات العالمية من ديكتاتورية وسطوته، ووضعت استراتيجية متكاملة في هذا الصدد من عدة خطوات:
الأولى: تعزيز العملة الصينية "اليوان" وتحويلها إلى عملة عالمية، وإصدار "البترو يوان" كمنافس للدولار الأمريكي.
الثانية: شراء أكبر قدر ممكن من مناجم الذهب في أمريكا الجنوبية والقارة الإفريقية وبات حجم إنتاجها، أي الصين، حوالي 500 طن سنويا.
الثالثة: الاستعداد لإصدار "عملات رقمية" كبديل للعملات الورقية، وبدأت تجربتها في أربع ولايات صينية، والنتائج الأولى مشجعة.
الرابعة: تأسيس ناد عالمي للتبادل التجاري بالعملات المحلية للدول الأعضاء مثل روسيا والهند وإيران وتركيا ومعظم دول "البريكس" وإقامة بورصة في شنغهاي لتداول عقود النفط "بالبترويوان" الصيني.
الخامسة: تأسيس البنك الآسيوي للاستثمار بعضوية 60 دولة وبرأسمال أولي مقداره 100 مليار دولار، لكي يكون بديلا لصندوق النقد الدولي في غضون عشر سنوات، ومن بين الدول الأعضاء روسيا ومصر والسعودية واليونان وبريطانيا والقائمة تطول.
السادسة: طريق الحرير الذي يمتد من آسيا عبر إفريقيا إلى أمريكا الجنوبية.
الصين لا تريد القضاء على الدولار ونفوذه بالكامل دفعة واحدة، ليس لأنها لا تستطيع، وإنما أيضا لأنها تملك احتياطات واستثمارات ضخمة بالعملة الأمريكية تقدر بحوالي ثلاثة ترليونات دولار معظمها في السندات الأمريكية، الاستراتيجية الصينية تسعى لتحجيم الدولار، وتقليص قوته، ونفوذه، وهيمنته على الاقتصاد العالمي، وهذا أحد أبرز أسباب التوتر المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين حاليا، ومما يجعل الكثير من المراقبين يتنبأ باحتمالات تطور الحرب الباردة المشتعلة حاليا إلى حرب ساخنة، وربما قبل أسابيع من الانتخابات الأمريكية.
ستيفن روتش، كبير الاقتصاديين السابق في بنك "مورغان ستانلي"، تنبأ بأن تنخفض قيمة الدولار بحوالي 35 بالمئة في العام المقبل 2021 بسبب تزعزع قيادة أمريكا للعالم، وفشل إدارتها في امتحان الكورونا، ومواجهته بالتالي، حيث فاقت حالات الوفاة حاجز الـ 175 ألفا، والإصابات 4.7 مليون حالة، وعدم قدرتها عن اختراع أمصال أو علاجات فاعلة لمواجهة الفيروس، واهتزاز ثقة العالم بزعامتها.
نعترف بانحيازنا إلى هذا التحرك الدولي بزعامة الصين وروسيا للإطاحة بالدولار عن عرشه المهيمن بالنظر إلى استخدامه من قبل الإدارة الأمريكية كسلاح لتجويع شعوب سوريا ولبنان وإيران وتركيا وفنزويلا، وتدمير اقتصادياتها لأنها قالت "لا" لسياسات الدعم الأمريكية للاحتلال الإسرائيلي، وتمسكت باستقلالية قرارها بقدر الإمكان.
من المؤسف أن معظم الدول العربية، والمحيطة بالخليج (الفارسي) خاصة التي ربطت عملاتها وكدست احتياطاتها، أو ما تبقى منها بالدولار، ستكون من أبرز الخاسرين، على عكس دول الاتحاد المغاربي (المغرب والجزائر وتونس، وموريتانيا وليبيا)، التي كانت أكثر دراية ونوعت عملات احتياطاتها، وربطت عملاتها بعدة عملات صعبة مثل اليورو والين والإسترليني إلى جانب الدولار بحكم قربها من أوروبا، وربط معظم تجارتها بها.
المصدر : رأي اليوم