حينما مات ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أو أبناؤه)، ولم يبقَ له إلّا بنات (أو بنتاً واحدة)، صار الأعداء يقولون: إنّ رسول الله أبتر. و"أبتر" في اللغة يعني مقطوع الذَنَب. وحينما يموت أولاد الإنسان ولا يبقى له ولد، يقولون له: "أبتر"؛ لأنّه لم يعد هناك من يُحيي ذكره، ويكمل رسالته.
وهكذا، على الرغم من أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبشّر بالإسلام ويدعو إليه، ولكن الكفّار كانوا يعتقدون أنّه حينما يموت، سوف يموت ذكره من بعده، لأنّه ليس له ولدٌ يُحيي له ذكره!
• إلامَ استند هذا التفكير الجاهلي؟
هذا المنطق الجاهليّ كان يستند إلى عنصرين:
العنصر الأوّل: أنّه ليس هناك من رسالة إلّا رسالة الشخص والعنصر والعائلة؛ فكما أنّ دكّان الإنسان الذي يموت لا يبقى مفتوحاً إذا لم يكن له ولد، كان أهل الجاهليّة يظنّون أنّ كلّ رسالة وكلّ جاه وكلّ حكم، إذا لم يكن وراءه صبيّ، فسوف يموت بموت صاحبه. لم يكونوا يتصوّرون أنّ هناك رسالة يؤدّي صاحبها دور الواسطة؛ الرسالة لله، والإسلام لله، وليس لشخص النبيّ "محمّد" صلى الله عليه وآله وسلم أو لعائلة "محمّد" صلى الله عليه وآله وسلم حتّى تنقطع بموته؛ فهو صلى الله عليه وآله وسلم قد أدّى دوره، والرسالة ما تزال تعيش في قلوب المؤمنين، والشعائر، والأحكام، والنظم والقوانين، والمبادئ والكتب؛ تعيش في القرآن الكريم قبل هذا كلّه، فالرسالة لا تموت بموت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
العنصر الثاني: هو احتقار البنات؛ فكان أهل الجاهليّة لا يرون للبنت القدرة على إحياء ذكر الوالد، فحين لا يكون للإنسان من صبيّ ذكر، ولو كان له بنات متعدّدات، فلا تبقى رسالته، بل تموت بموته.
نتيجة لذلك، نزلت هذه السورة المباركة: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾، والتي ذكر المفسّرون أنّها نزلت لتثبت حقيقتين:
الأولى: تقرّر حقيقة الخير الباقي الممتدّ الذي اختاره الله لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم.
والثانية: حقيقة الانقطاع والبتر المقدّر لأعدائه صلى الله عليه وآله وسلم.
• أعطيناك الخير العظيم
فما هو الكوثر؟ الكوثر في اللغة العربيّة يعني العدد الكثير، الشيء الكثير الكثير الذي أعطاه الله لرسوله هو كلّ شيء، وتجسّد بالأمور التالية:
1- الرسالة الخالدة ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾؛ أعطيناك الرسالة الخالدة، وتلك المبادئ والقيم التي تتجلّى في كلّ عصر وفي كلّ زمان بصورة أكثر إشراقاً ونوراً واتّساعاً وإشعاعاً من العصر السابق. وكلّما تقدّم العلم، تظهر حقيقة هذه المبادئ بصورة أكثر وأعلى شموخاً.
2- الأمّة الكبيرة ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾؛ أعطيناك الأمّة الكبيرة، فأنت يا رسول الله أبو هذه الأمّة، التي أصبحت خلال أقلّ من قرن واحد تضمّ مئة مليون شخص مسلم.
إنّ تلك الرسالة التي كانوا ينتظرون موتها بموت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، يزداد أعداد أتباعها، عاماً بعد عام.
وهكذا، فإنّ مئات الألوف والملايين من المآذن، تصدح كلّ يوم خمس مرّات بـ"أشهد أنّ محمّداً رسول الله"، في الأصقاع والأقطار كلّها. فيا رسول الله، إنّ رسالتك ممتدّة بطبيعتها، وليست هناك من دعوة متينة وقويّة عبر التاريخ مثلها.
3- القرآن الكريم ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾؛ أعطيناك القرآن وكفى به، فإنّ هذا الكتاب كتاب الله وكلماته. ومع كلّ تقدّم في التفكير، نفهم من القرآن شيئاً جديداً. وكلّما درسنا القرآن على ضوء ثقافة عصرنا سوف نفهم منه الأشياء الكثيرة.
4- الذرية الكبيرة ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾؛ هل كان أهل الجاهليّة يعيّرونك على عدم وجود الذريّة من بعدك! فسوف نعطيك الذريّة الكثيرة. إنّ إحصاء عدد ذريّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بدقّة غير ممكن، ولكن في أيّام العثمانيّين، حينما كان هناك نقابات للأشراف، كان في كلّ بلد نقيبٌ للأشراف يُحصي عدد السادة، ومنذ أكثر من مئة عام أجروا إحصاءً، فبلغ عدد السادة في العالم نحو ثمانية عشر مليون شخص. ولا شكّ في أنّه من وقتها إلى الآن تكاثر هذا العدد. إنّهم جميعاً أولادك، يا رسول الله، ولكن أين نسب أعدائك الذين كانوا يتّهمونك بهذا؟ وها هم زوّار أهل بيتك عليهم السلام يتوافدون إلى مقابرهم ومقاماتهم بأعداد ضخمة.
5- نسل علي وفاطمة عليهما السلام ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾؛ بما أنّ ذريّة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هي من نسل الإمام عليّ والسيّدة فاطمة عليهما السلام، فبإمكاننا أن نقول، كما ورد في بعض الكتب، إنّ الكوثر هو الإمام عليّ والسيّدة فاطمة عليهما السلام اللذين كانت الذريّة، والرسالة، والدعوة عن طريقهما.
6- نهر كبير ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾؛ في بعض الروايات أنّ الكوثر نهر كبير عريض طويل يجري تحت العرش، وحوله مئات الألوف من الكؤوس لشرب الشاربين. لا شكّ في أنّ هذا الماء معنويّ يتجلّى وينسجم مع يوم القيامة. من الذي يشرب من هذا الماء؟ هو الذي يشرب من ماء الولاية في هذه الدنيا: ﴿وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ (الإسراء: 72). إذا كان الإنسان في هذه الدنيا أعمى البصيرة، فلا شكّ في أنّه يوم القيامة أعمى أيضاً. الدنيا والآخرة متناسبتان؛ الدنيا مزرعة الآخرة، والآخرة هي باب الدنيا. فالجنّة والنار تتكوّنان من عملنا هنا، في هذه الدنيا، والوصول والسقي من الكوثر يبدأ من هنا.
ورد في دعاء شهر شعبان: "اللهمّ، فأعنّا على الاستنان بسنّته فيه، ونيل الشفاعة لديه"(1). الاستنان بسنّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الدنيا هو الذي يؤدّي إلى نيل الشفاعة منه صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة. فإذا كان الإنسان هنا سالكاً سبيل الحقّ ومتمسّكاً بمتابعة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وولايته وولاية أهل بيته عليهم السلام، فلا شكّ في أنّ له من النِّعم والشراب والماء والارتواء والراحة في يوم القيامة ما وصفته الأخبار بنهر الكوثر.
الإمام المغيب السيد موسى الصدر (أعاده الله ورفيقيه)