الجود والكرم والسخاء
كان ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لا يجاري في هذه الأخلاق الكريمة ولا يباري بهذا، وصفه كل من عرفه قال أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أجود الناس كفاً وأكرمهم عشرةً من خالطه فعرفه أحبه.
وعن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: وأنا أديبي الله وعلي أديبي أمرني ربي بالسخاء والبر ونهاني عن البخل والجفاء وما شيء أبغض إلى الله عز وجل من البخل وسوء الخلق وإنه ليفسد العمل كما يفسد الطين العسل.
وروي عن الصادق ـ عليه السَّلام: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أقبل إلى الجعرانة فقسم فيها الأموال وجعل الناس يسألونه فيعطيهم حتى ألجأوه إلى شجرة فأخذت بردة وخدشت ظهره حتى جلوه عنها وهم يسألونه فقال: أيها الناس ردوا علي بردي والله لو كان عندي شجر تهامة نعماً لقسمته بينكم ثم ما ألفيتموني جباناً ولا بخيلاً.
ثم خرج من الجعرانة في ذي القعدة قال: فما رأيت تلك الشجرة إلا خضراء كأنما يرش عليها الماء.
الجعرانة وهو موضع بين مكة والطائف وهي إلى مكة أقرب، والأموال التي قسمت بينهم هي غنائم حنين وأعطى غير واحد مائة من الإبل.
قال الشيخ الأزري (قدس سره):
كــــم سخــى منعماً فأعتق قوما****** وكذا أشرف الطبـــاع ســـخاها
وهبـــــات لـــــه عقــــيب هبات****** كســــيول جــــرت إلـى بطحاها
وقال البوصيري:
أكـــرم بخـــــلق نبــــــي زانه خلق****بالحســـن مشـــتمل بالبشـر مبتسم
كـالزهر في ترف والبدر في شرف****والبحـــر فـي كرم والدهـر في همم
كـــــأنه وهـــــو فرد فـــــي جـلالته****فـــي عسـكر حين تلقاه وفي حشم
قال جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ ما سأل رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ شيء قط فقال: لا، وروي أن رجلاً أتى النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فقال: ما عندي شيء ولكن أتبع علياً فإذا جاءنا شيء قضيناه.
قال عمر: فقلت: يا رسول الله ما كلفك الله ما لا تقدر عليه قال: فكره النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فقال الرجل: أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالاً، قال: فتبسم النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وعرف السرور في وجهه.
حــاشــاه أن يحرم الراجي مكارمه***أو يـــرجع الجـــار منه غيـــر محترم
ولما أعجب كلام هذا الرجل رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وتلقاه بالقبول استشهد به مولانا أبو الحسن الرضا ـ عليه السَّلام ـ في كتابه إلى أبي جعفر الجواد ـ عليه السَّلام ـ فقد روي الصدوق عن البزنطي رحمة الله عليهما.
قال قرأت كتاب أبي الحسن الرضا إلى أبي جعفر ـ عليه السَّلام ـ: يا أبا جعفر بلغني أن الموالي إذا ركبت أخرجوك من الباب الصغير وإنما ذلك من بخل بهم لئلا ينال منك أحد خيراً فأسألك بحقي عليك لا يكن مدخلك ومخرجك إلا من الباب الكبير وإذا ركبت فليكن معك ذهب وفضة ثم لا يسألك أحداً إلا أعطيته ومن سألك من عمومتك إذ تبره فلا تعطه أقل من خمسين ديناراً و الكثير إليك ومن سألك من عماتك فلا تعطها أقل من خمسة وعشرين ديناراً والكثير إليك إني إنما أريد أن يرفعك الله تعالى فأنفق ولا تخش من ذي العرش إقتاراً.
أقول: ولقد سرت السخاوة من رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلى رهطه حكى المسعودي في مروج الذهب أن سائلاً وقف على عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب وقال: تصدق بما رزقك الله فإني نبئت أن عبيد الله بن العباس أعطى سائلاً ألف درهم واعتذر إليه فقال: وأين أنا من عبيد الله قال له: أين أنت في الحسب أو في كثرة المال قال: فيهما جميعاً
قال: إن الحسب في الرجل مروءته وحسن فعله فإذا فعلت ذلك كنت حسيباً فأعطاه ألفي درهم واعتذر إليه فقال له السائل: إن لم تكن عبيد الله فأنت خير منه وإن كنت هو فأنت اليوم خير منك أمس فأعطاه ألفاً أيضاً فقال: لئن كنت عبيد الله إنك لأسمح أهل دهرك وما أخالك إلا من رهط فيهم محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فأسألك بالله أنت هو قال: نعم قال: والله ما أخطأت إلا باعتراض الشك بين جوانحي وإلا فهذه الصورة الجميلة والهيئة المنيرة لا يكون إلا في نبي أو عترة نبي.
الشجاعــة
كان ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ منهما بالمكان الذي لا يجهل قد حضر المواقف الصعبة وفر الكماة والأبطال عنه غير مرة وهو ثابت لا يبرح ومقبل لا يدبر سأل رجل البراء وقال: أفررتم يوم حنين عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: لكن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لم يفر ثم قال: لقد رأيته ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ على بغلته البيضاء وأبو سفيان [أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب] آخذ بلجامها والنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول:
أنـــــا ابـــــن عــبـــد المــطلب
أنـــــا الـنـــبـــي لا كــــذب
قيل فما رؤي يومئذ أحد كان أشد منه، قلت: المراد بأبي سفيان هنا أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب وقد تقدم ذكره في أولاد عبد المطلب.
وذكر مسلم، عن العباس قال: فلما التقى المسلمون والكفار ولّى المسلمون مدبرين وطفق رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يركض بغلته نحو الكفار وأنا آخذ بلجامها أكفها إرادة أن لا تسرع وأبو سفيان آخذ بركابه وقيل: كان ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إذا غضب ولا يغضب إلا لله لم يقم لغضبه شيء.
وعن أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ قال: إنا كنا إذا حمي البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وهو أقربنا إلى العدو وكان أشد الناس يومئذ باساً.
طارت قلوب العدى من بأسه فرقا***فما تفـرق بين البهم والبهم
ومن يكن برسول الله نصـرته***إن تلقه الأسد في آجامها تجم (1)
وقيل: كان الشجاع هو الذي يقرب منه إذ دنا العدو لقربه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ منه وكان أبي بن خلف يقول للنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عندي رمكة(2) أعلفها كل يوم فرقاً من ذرة أقتلك عليها فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم: بل أنا أقتلك إن شاء الله تعالى فلما كان يوم أحد يقول أبي: أين محمد لا نجوت إن نجا حتى إذا دنى منه شد على فرسه على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فاعترضه رجال من المسلمين فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم: دعوه فلما دنا منه تناول النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ الحربة من الحرث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه فخدش خدشة فتدهده عن فرسه وهو يخور خور الثور ويقول: قتلني محمد فاحتمله أصحابه، وقالوا: ليس عليك بأس، فقال: بلى لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر، وفي رواية أخرى: لو كان ما بي بجميع الناس لقتلهم أليس قد قال لي: أنا أقتلك فلو بزق علي بعد تلك المقالة لقتلني فلم يلبث إلا يوماً حتى مات.
بـــأســـه مهـلــك وأدنى يـداه***منـــقذ الهـــالكين مــن بأساها
ســـؤدد قــارع الكواكب حتى***جـــــاوزت نيــــراته جــــوزها
وقال مالك بن عوف حين أسلم وهو الذي جمع هوازن لحرب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فأخذ ماله وأسر أهله في الأسارى فلحق برسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فرد عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل فأسلم وحسن إسلامه وقال:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله***في الناس كلهم بمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى***ومتى تشا يخبرك عما في غد(3)
وإذا الكتيبة عردت أنيابــــــها***بالسمهري وضرب كل مهـنـد
فكأنه ليث على أشـباله***وســط الهبـائة خـادر في مرصد
قيل: وكأنه أخذ من قوله وإذا الكتيبة عردت (الخ) السيد الحميري في مدحه لأمير المؤمنين ـ عليه السَّلام:
أقســــم بــالله وآياته (آلائه خ)***والمــــرء عمــــا قــال مسؤول
إن عــــلي بــــن أبــــــي طالب***عــلى التــــقى والبـــر مجــبول
كــــان إذا الحــرب مـرتها القنا***وأحــــجمت عنــــها البــــهاليل
يــمشي إلـــى القــرن وفي كفه***أبيـــض مــاضي الحد مصقول
مشــــى العــفــرنــا بين أشباله***أبــــرزه للقــــنص الغيــــــــــل
ذاك الــــذي ســـلم فـــي ليـــلة***عليـــــه ميــــكال وجبـــــريـــل
جبـريــل فـــي ألف وميكال في***ألــــف ويــــتلوه ســــرافــــــيل
لـــيــــلة بــــدر مــــدداً أنــزلوا***كـــأنــــهم طــــير أبــــابيـــــــل
الحياء والإغضاء
أي التغافل عما يكره الإنسان بطبيعته فكان ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ منهما بالمحل الأعلى وفائزاً بالقدح المعلى قال الله تعالى: (إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم). وقال أبو سعيد الخدري: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ حيياً لا يُسئل شيئاً إلا أعطاه.
وقال: كان ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أشد حياءً من العذراء في خدرها وكان إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه وكان ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لطيف البشرة رقيق الظاهر لا يشافه أحداً بما يكرهه حياءً وكرم نفس وكان إذا بلغه عن أحد ما يكرهه لم يقل ما بال فلان يقول كذا ولكن يقول: ما بال أقوام يصنعون كذا ويقولون كذا ينهى ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عنه ولا يسمي فاعله.
وروي عنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنه كان من حيائه لا يثبت بصره في وجه أحد وأنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كان يكني عما اضطره الكلام إليه مما يكره.
التعامل الإجـتماعي
كان أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ إذا وصف رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال كان أجود الناس كفاً وأجرأ الناس صدراً وأصدق الناس لهجةً وأوفاهم ذمةً وألينهم عريكةً وأكرمهم عشرةً من رآه بديهة هابه ومن خالطه فعرفه أحبه لم أرَ مثله قبله ولا بعده.
لله در القائل:
فمــا تطـاول آمـال الـمـديــح إلـى***ما فيــه مــن كـرم الأخلاق والشيم
وكـــل آي أتـى الـرسـل الكرام بها***فإنـه اتــصـــلت مـن نــوره بهم
فـإنـه شـمـس فـضل هـم كواكبها***يظـهرن أنـوارها للناس في الظلم
وذكر العلماء في أخلاقه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنه كان يؤلف الناس ولا ينفرهم ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم ويقول ـ صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره ولا خلقه يتفقد أصحابه ويعطي كل جلسائه نصيبه لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه من جالسه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه من سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول قد وسع الناس خلقه وبسطه فصار لهم أباً وصاروا عنده في الخلق سواء.
وكان يجيب من دعاه، ويقبل الهدية ولو كانت كراعاً ويكافئ عليها يغضب لربه عز وجل ولا يغضب لنفسه وينفذ الحق وإن عاد ذلك بالضرر عليه وعلى أصحابه. عرض عليه الانتصار بالمشركين على المشركين وهو في قلة وحاجة إلى إنسان واحد يزيد في عدد من معه فأبى وقال: إنا لا نستنصر من مشرك.
وكان ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ دائم البِشر سهل الخلق لين الجانب ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب ولا فحاش ولا غياب ولا مداح يتغافل عما لا يشتهي ولا يؤيس منه.
وقال الله تعالى: (فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) وقال تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن).
عن أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ أنه قال: إن يهودياً كان له على رسول الله دنانير فتقاضاه فقال له: يا يهودي ما عندي ما أعطيك فقال: فإني لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني فقال: إذاً أُحبس معك فجلس ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ معه حتى صلى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة وكان أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يتهددونه ويتواعدونه فنظر رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إليهم
فقال: ما الذي تصنعون به فقالوا: يا رسول الله يهودي يحبسك فقال: لم يبعثني ربي عز وجل بأن أظلم معاهداً ولا غيره فلما أعلا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وشطر مالي في سبيل الله.
وعن أنس قال: خدمت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عشر سنين فما قال لي أُف قط وما قال لشيء صنعته لِمَ صنعته ولا لشيء تركته لِمَ تركته وقال: كان لرسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ شربة يفطر عليها وشربة للسحر وربما كانت واحدة وربما كانت لبناً وربما كانت الشربة خبزاً يماث فهيأتها له ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ذات ليلة فاحتبس النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فظننت أن بعض أصحابه دعاه فشربتها حين احتبس فجاء بعد العشاء بساعة فسألت بعض من كان معه: هل كان النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أفطر في مكان أو دعاه أحد؟
فقال: لا، فبتّ بليلة لا يعلمها إلا الله من غم أن يطلبها النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ولا يجدها فيبيت جائعاً فأصبح صائماً وما سألني عنها ولا ذكرها حتى الساعة.
وقالت عائشة: ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته إلا قال: لبيك.
وقال جرير بن عبد الله: ما حجبني رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قط منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم وكان يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويجلسهم في حجره ويجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين ويعود المرضى في أقصى المدينة ويتبع الجنائز ويقبل عذر المعتذر ولا يرتفع على عبيده وإمائه في مأكل ولا ملبس ولا يأتيه أحد حراً وعبداً أو أمةً إلا قام معه في حاجته لا فظ ولا غليظ لا يجلس متكئاً ولا يتقدمه مطرق ولا يثبت بصره في وجه أحد ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن يغضب لربه ولا يغضب لنفسه.
وعن أنس قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه فإن كان غائباً دعا له وإن كان شاهداً زاره وإن كان مريضاً عاده.
وروي أنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لا يدع أحداً يمشي معه إذا كان راكباً حتى يحمله معه فإن أبى قال تقدم أمامي وأدركني في المكان الذي تريد ودعاه قوم من أهل المدينة إلى طعام صنعوه له ولأصحاب له خمسة فأجاب دعوتهم فلما كان في بعض الطريق أدركهم سادس فماشاهم فلما دنوا من بيت القوم قال للرجل السادس: إن القوم لم يدعوك فاجلس حتى نذكر لهم مكانك ونستأذنهم بك.
وروي عن طريق العامة أنه كان في سفر فأمر بإصلاح شاة فقال رجل: يا رسول الله عليّ ذبحها وقال آخر: عليّ سلخها وقال آخر: عليّ طبخها فقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: وعليّ جمع الحطب.
فقالوا: يا رسول الله نحن نكفيك فقال: قد علمت أنكم تكفوني ولكني أكره أن أتميز عليكم فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه وقام فجمع الحطب.
وكان في سفره فنزل إلى الصلاة ثم كرّ راجعاً فقيل: يا رسول الله أين تريد؟ قال: أعقل ناقتي قالوا: نحن نعقلها قال: لا يستعن أحدكم بالناس ولو في قضمة من سواك.
وقال أنس: ما التقم أحد أُذن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فينحّي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحّي رأسه. وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر وما قعد إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ رجل قط فقام حتى يقوم ولم يرَ مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له وكان يبدأ من لقيه بالسلام ويبدأ أصحابه بالمصافحة لم ير قط ماداً رجليه بين أصحابه يكرم من يدخل عليه وربما بسط له ثوبه ويؤثره بالوسادة التي تحته ويعزم عليه في الجلوس عليها إن أبى ويكني أصحابه ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمةً لهم ولا يقطع على أحد حديثه.
روي عن سلمان قال: دخلت على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ هو متكئ على وسادة فألقاها إليّ ثم قال: يا سلمان ما من مسلم دخل على أخيه المسلم فيلقي له الوسادة إكراماً له إلا غفر الله له.
وعن الصادق ـ عليه السَّلام ـ قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقسم لحظاته بين أصحابه فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسوية قال: ولم يبسط رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ رجليه بين أصحابه قط وإن كان يصافحه الرجل فما يترك رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يده من يده حتى يكون هو التارك فلما فطنوا لذلك كان الرجل إذا صافحه قام بيده فنزعها من يده.
وروي أنه لا يجلس إليه أحد وهو يصلي إلا خفف صلاته وسأله عن حاجته فإذا فرغ عاد إلى صلاته وكان أكثر الناس تبسماً وأطيبهم نفساً ما لم ينزل عليه قرآن أو يعظ ويخطب.
وروي أنه كان خدم المدينة يأتون رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إذا صلى الغداة بآنيتهم فيها الماء فما يؤتى بآنية إلا غمس يده فيها وربما كان ذلك في الغداة الباردة يريدون به التبرك.
وكان ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يؤتى بالصبي الصغير ليدعو له بالبركة أو يسميه فيأخذه فيضعه في حجره تكرمةً لأهله فربما بال الصبي عليه فيصيح بعض من رآه حين بال فيقول ـ صلى الله عليه وآله وسلم: لا تزرموا بالصبي فيدعه حتى يقضي بوله ثم يفرغ له من دعائه أو تسمية فيبلغ سرور أهله فيه ولا يرون أنه يتأذى ببول صبيهم فإذا انصرفوا غسل ثوبه بعد ودخل رجل المسجد وهو جالس وحده فتزحزح له فقال الرجل: في المكان سعة يا رسول الله فقال: إن حق المسلم على المسلم إذا رآه يريد الجلوس إليه أن يتزحزح له.
وروي أن علياً ـ عليه السَّلام ـ صاحب رجلاً ذمياً فقال له الذمي: أين تريد يا عبد الله؟ قال: أريد الكوفة فلما عدل الطريق بالذمي عدل معه علي ـ عليه السَّلام ـ فقال له الذمي: أليس زعمت تريد الكوفة؟ قال: بلى فقال له الذمي: فقد تركت الطريق فقال: قد علمت فقال له: فلم عدلت معي وقد علمت ذلك فقال له علي ـ عليه السَّلام ـ: هذا من تمام حسن الصحبة أن يشيّع الرجل صاحبه هنيهة إذا فارقه وكذلك أمرنا نبينا فقال هكذا أمركم نبيكم، قال: نعم فقال له الذمي: لا جرم أن تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة وأنا أشهدك أني على دينك فرجع الذمي مع علي ـ عليه السَّلام ـ فلما عرفه أسلم.
رحمة للعالمين
فقد قال الله تعالى فيه: (عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) وقال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين) قيل: من فضله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أن الله تعالى أعطاه اسمين من أسمائه، فقال: (بالمؤمنين رؤوف رحيم).
روي أن إعرابياً جاءه يطلب منه شيئاً فأعطاه ثم قال: أحسنت إليك قال الأعرابي: لا ولا أجملت فغضب المسلمون وقاموا إليه فأشار إليهم أن كفوا ثم قام ودخل منزله وأرسل إليه وزاده شيئاً ثم قال: أحسنت إليك قال: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً فقال له النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم: إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي من ذلك شيء فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك قال: نعم فلما كان الغد أو العشي جاء، فقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم: إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه فزعم أنه رضي أكذلك قال: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً فقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم: مثلي ومثل هذا مثل رجل له ناقة شردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً فناداهم صاحبها خلوا بيني وبين ناقتي فإني ارفق بها منكم وأعلم فتوجه لها بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض فردها حتى جاءت واستناخت وشد عليها رحلها واستوى عليها وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار.
وروي عن العلاء بن الحضرمي أنه قال: إن لي أهل بيت أحسن إليهم فيسيئون وأصلهم فيقطعون فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم: ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك … الآية، فقال العلاء: إني قلت شعراً هو أحسن من هذا قال ـ صلى الله عليه وآله وسلم: وما قلت فأنشده شعره فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم: إن من الشعر لحكماً وإن من البيان لسحراً وإن شعرك لحسن وإن كتاب الله أحسن.
وروي أن أعرابياً من بني سليم يتبدى في البرية فإذا هو بضب قد نفر من بين يديه فسعى وراءه حتى اصطاده ثم جعله في كمه وأقبل يزدلف نحو النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فلما أن وقف بإزائه ناداه: يا محمد يا محمد أنت الساحر الكذاب الذي ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة هو أكذب منك أنت الذي تزعم أن لك في هذه الخضراء إلهاً بعث بك إلى الأسود والأبيض، واللات والعزى لولا أني أخاف أن قومي يسمونني العجول لضربتك بسيفي هذا ضربة أقتلك بها فأسود بك الأولين والآخرين فوثب إليه عمر بن الخطاب ليبطش به فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم: اجلس يا أبا حفص فقد كاد الحليم أن يكون نبياً.
ثم التفت النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلى الأعرابي فقال له: يا أخا بني سليم هكذا تفعل العرب يتهجمون علينا في مجالسنا يجبهوننا بالكلام الغليظ يا أعرابي والذي بعثني بالحق نبياً إن من ضرَّ بي في دار الدنيا هو غداً في النار يتلظى …
وروي عنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال: لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم سليم الصدر.
وعن أبي جعفر ـ عليه السَّلام ـ قال: دخل يهودي على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وعائشة عنده فقال: السام عليكم فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم: عليك ثم دخل آخر فقال مثل ذلك فرد عليه كما رد على صاحبه فغضبت عائشة فقالت: عليكم السام والغضب واللعنة يا معشر اليهود يا أخوة القردة والخنازير فقال لها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم: يا عائشة إن الفحش لو كان ممثلاً لكان مثال سوء إن الرفق لم يوضع على شيء قط إلا زانه ولم يرفع عنه إلا شانه.
وعن أمير المؤمنين ـ عليه السَّلام ـ قال: بينما رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يتوضأ إذ لاذ به هر البيت وعرف رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنه عطشان فأصغى إليه الأناء حتى شرب منه الهر وتوضأ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بفضله.
حسن العهد وصلة الرحم
فروي عن أنس قال: كان النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إذا أُتي بهدية قال: اذهبوا بها إلى بيت فلانة فإنها كانت صديقة لخديجة إنها كانت تحب خديجة.
وعن عائشة قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة لما كنت أسمعه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يذكرها وإنه كان ليذبح الشاة فيهديها إلى خلائلها. وعن أبي قتادة قال: وفد وفد للنجاشي فقام النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يخدمهم فقال له أصحابه: نكفيك فقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم: إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين وإني أحب أن أكافئهم. ولما جيء بأخته من الرضاعة (شيماء) في سبايا هوازن وتعرفت له بسط لها رداءه وقال لها: إن أحببت أقمت عندي مكرمة محببة أو متعتك ورجعت إلى قومك فاختارت قومها فمتعها.
وقال أبو الطفيل رأيت النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وأنا غلام إذ أقبلت امرأة حتى دنت منه فبسط لها رداءه فجلست عليه فقلت: من هذه؟ قالوا: أُمه التي أرضعته.
وقال أبو عبد الله ـ عليه السَّلام ـ: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أتته أخت له من الرضاعة فلما أن نظر إليها سر بها وبسط رداءه لها فأجلسها عليه ثم أقبل يحدثها ويضحك في وجهها ثم قامت فذهبت ثم جاء أخوها فلم يصنع به ما صنع بها فقيل: يا رسول الله صنعت بأخته ما لم تصنع به وهو رجل فقال: لأنها كانت أبر بأبيها منه.
وعن عمرو بن السائب قال: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كان جالساً يوماً فأقبل أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فأجلسه بين يديه وكان ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يبعث إلى ثويبة مولاة أبي لهب مرضعته بصلة وكسوة فلما ماتت سأل من بقي من قرابتها فقيل لا أحد.
وفي حديث خديجة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت له: أبشر فو الله لا يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسي المعدوم وتقري الضيف وتعين على النوائب.
التواضع
فكان أشد الناس تواضعاً وحسبك أنه خُيّر بين أن يكون عبداً رسولاً متواضعاً أو ملكاً رسولاً ولا ينقصه مما عند ربه شيئاً فأختار أن يكون عبداً متواضعاً رسولاً.
وعن أبي إمامة قال: خرج علينا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ متوكئاً على عصا فقمنا له فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً وقال أنس: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وكانوا إذا رأوه لم يقوموا إليه لما يعرفون من كراهيته وكان ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس حين يدخل وكان يجلس على الأرض ويأكل على الأرض ويقول: إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد.
قال الصادق ـ عليه السَّلام: ما أكل رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ متكئاً منذ بعثه الله عز وجل نبياً حتى قبضه الله إليه متواضعاً لله عز وجل.
وقال: مرت امرأة بذيئة برسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وهو يأكل وهو جالس على الحضيض فقالت: يا محمد والله إنك لتأكل أكل العبد وتجلس جلوسه فقال لها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: ويحك أي عبدٍ أعبدَ مني؟ قالت: فناولني لقمة من طعامك فناولها فقالت: لا والله إلا التي في فمك فأخرج رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ اللقمة من فمه فناولها فأكلتها. قال أبو عبد الله ـ عليه السَّلام ـ: فما أصابها داء حتى فارقت الدنيا روحها.
وعنه ـ عليه السَّلام: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يحب الركوب على الحمار موكفاً والأكل على الحضيض مع العبيد ومناولة السائل بيديه وكان يركب الحمار ويردف خلفه عبده أو غيره ويركب ما أمكنه من فرس أو بغلة أو حمار. وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه أكاف من ليف.
وعن أبي جعفر ـ عليه السَّلام ـ: قال خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يريد حاجة فإذا بالفضل بن العباس فقال: احملوا هذا الغلام خلفي قال: فاعتنق رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بيده من خلفه على الغلام ثم قال: يا غلام خف الله تجده أمامك يا غلام خف الله يكفك ما سواه.
وروي أنه أردف أسامة في حجة الوداع حين دفع من الموقف وأردف الفضل لما دفع من المشعر.
وقال أهل السير: وكان في بيته في مهنة أهله ويقطع اللحم ويجلس على الطعام محقراً وكان يلطع أصابعه ولم يتجشأ قط يحلب شاته ويرقع ثوبه ويخصف نعله ويخدم نفسه ويقم البيت ويعقل البعير ويعلف ناضحه ويطحن مع الخادم ويعجن معها ويحمل بضاعته من السوق ويضع طهوره بالليل بيده ويجالس الفقراء ويؤاكل المساكين ويناولهم بيده.
العدالة والأمانة والعفة
فهو من هذه الخصال بمكان اعترف له بذلك محادوه وأعداؤه فكان يسمى قبل نبوته الأمين ويودعون عنده الودائع.
فروي أنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لما أراد الهجرة خلف علياً ـ عليه السَّلام ـ لقضاء ديونه ورد الودائع التي كانت عنده ولما اختلفت قريش عند بناء الكعبة في من يضع الحجر حكموا أول داخل عليهم فإذا بالنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ داخل وذلك قبل نبوته فقالوا: هذا محمد هذا الأمين قد رضينا به.
وعن الربيع بن خثيم قال: كان يتحاكم إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في الجاهلية قبل الإسلام وفي قصة دار الندوة واجتماع قريش وإبليس في تدبير قتل رسول الله قال أبو جهل في كلام له: حتى نشأ فينا محمد بن عبد الله فكنا نسميه الأمين لصلاحه وسكونه وصدق لهجته حتى إذا بلغ ما بلغ وأكرمناه ادعى إني رسول الله.
وروي أن أبا جهل قال للنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم: إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به فنزلت: (فإنهم لا يكذبونك…).
وقيل: إن الأخنس بن شريق لقي أبا جهل يوم بدر فقال له: يا أبا الحكم ليس هنا غيري وغيرك يسمع كلامنا تخبرني عن محمد صادق أم كاذب؟ فقال أبو جهل: والله إن محمداً لصادق وما كذب محمد قط.
وسأل هرقل عنه أبا سفيان فقال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا.
وقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لخويصرة في كلام له عند تقسيم غنائم حنين: ويلك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون.
وروي عن عمار ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت أرعى غنيمة أهلي وكان محمد يرعى أيضاً فقلت: يا محمد هل لك في فخ فإني تركتها روضة برق قال: نعم فجئتها من الغد وقد سبقني محمد وهو قائم يذود غنمه عن الروضة قال: إني كنت واعدتك فكرهت أن أرعى قبلك.
الوقار والمرؤة
كفى في ذلك التعبير عنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بصاحب الوقار والسكينة مع ما روي أنه كان أوقر الناس في مجلسه لا يكاد يخرج شيئاً من أطرافه وكان خافض الطرف نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء وكان أعف الناس وأشدهم إكراماً لأصحابه لا يمد رجليه بينهم ويوسع عليهم إذا ضاق المكان ولم يكن ركبتاه تتقدمان ركبة جليسه.
وكان كثير السكوت لا يتكلم في غير حاجة يعرض عمن تكلم بغير جميل وكان ضحكه تبسماً وكلامه فصلاً وكان ضحك أصحابه عنده التبسم توقيراً له واقتداء مجلسه مجلس حلم وحياء وخير وأمانة لا ترفع فيه الأصوات ولا تؤبن فيه الحرم إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير.
وكان يجلس حيثما انتهى به المجلس ويأمر الناس بذلك وكان ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول: أعطوا المجالس حقها قيل: وما حقها؟ قال: غضوا أبصاركم وردوا السلام وأرشدوا الأعمى وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ويقول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع فهو أولى بمكانه وكان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر وإذا جلس إليه أحدهم لم يقم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ حتى يقوم الذي جلس إليه إلا أن يستعجله أمر فيستأذنه.
وكان أهل بيته المقتبسون من مشكاته كذلك فقد روي اليسع بن حمزة قال: كنت أنا في مجلس أبي الحسن الرضا ـ عليه السَّلام ـ أحدثه وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال والحرام إذ دخل عليه رجل طوال أدم فقال له: السلام عليك يابن رسول الله رجل من محبيك ومحبي آبائك وأجدادك ـ عليهم السلام ـ مصدري من الحج وقد افتقدت نفقتي وما معي ما أبلغ به مرحلة فإن رأيت أن تنهضني إلى بلدي ولله عليّ نعمة فإذا بلغت بلدي تصدقت بالذي توليني عنك فلست موضع صدقة فقال له اجلس رحمك الله وأقبل على الناس يحدثهم حتى تفرقوا وبقي هو وسليمان الجعفري وخيثمة وأنا فقال: أتأذنون لي في الدخول فقال له سليمان: قدم الله أمرك فقام فدخل الحجرة وبقي ساعة ثم خرج ورد الباب وأخرج يده من أعلى الباب وقال: أين الخراساني؟ فقال: ها أنا ذا فقال: خذ هذه المائتي دينار واستعن بها في مؤنتك ونفقتك وتبرك بها ولا تتصدق بها عني واخرج فلا أراك ولا تراني ثم خرج فقال سليمان: جعلت فداك لقد أجزلت ورحمت فلماذا سترت وجهك عنه؟ فقال: مخافة أن أرى ذلّ السؤال في وجهه لقضائي حاجته أما سمعت حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم: المستتر بالحسنة تعدل سبعين حجة والمذيع بالسيئة مخذول والمستتر بها مغفور له أما سمعت قول الأُوَل:
متى آته يوماً لأطلب حاجةً***رجعت إلى أهلي ووجهي بمائة
الفصاحة والبلاغة
كان ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من ذلك بالمحل الأفضل والموضع الذي لا يجهل أوتي جوامع الكلم وخص ببدائع الحكم يخاطب العرب كل أمة منها بلسانها ويحاورها بلغتها ويباريها في منزع بلاغتها حتى كان كثيراً من أصحابه يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه وتفسير قوله عن تأمل حديثه وسيره علم ذلك وتحققه.
وليس كلامه مع قريش والأنصار وأهل الحجاز ونجد ككلامه مع ذي المشعار الهمداني وطهفة النهدي وقطن بن حارثة العليمي ووائل بن حجر الكندي وغيرهم من قبائل حضرموت وملوك اليمن قال له أصحابه ما رأينا الذي هو أفصح منك فقال وما يمنعني وإنما أنزل القرآن بلساني وقال مرة أخرى: بيد أني من قريش ونشأت في بني سعد فجمع له بذلك قوة عارضة البادية وجزالتها وفصاحة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها.
قالت أم معبد في وصفها له ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر كأن منطقه خرزات نظمن.
وقال ابن عباس كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إذا حدث الحديث أو سأل عن الأمر كرره ثلاثاً ليفهم ويفهم عنه.
قال أبو عبد الله ـ عليه السَّلام ـ: ما كلم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ العباد بكنه عقله قط قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم. قال بعض العلماء: كان ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أفصح الناس منطقاً وأعلاهم كلاماً ويقول: أنا أفصح العرب وأهل الجنة يتكلمون فيها بلغة محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وكان نزر الكلام سمح المقالة إذا نطق ليس بمهذار وكان كلامه كخرزات النظم.
وكان ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أوجز الناس كلاماً وبذلك جاء جبرئيل وكان مع الإيجاز يجمع كل ما أراد وكان يتكلم بجوامع الكلم لا فضول ولا تقصير.كلامه يتبع بعضه بعضاً بين كلامه توقف يحفظه سامعه ويعيه وكان جهير الصوت أحسن الناس نغمة وكان طويل السكوت لا يتكلم في غير حاجة ولا يقول في الرضا والغضب إلا الحق.
وأما نظافة جسمه وطيب ريحه وعرقه ونزاهته عن الأقذار
خصه الله بخصائص لم توجد في غيره قال أنس: ما شممت عنبراً قط ولا مسكاً ولا شيئاً أطيب من ريح رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ. وعن جابر بن سمرة أنه مسح خده قال: فوجدت ليده برداً وريحاً كأنما أخرجها من جونة(4) وكان يصافح المصافح فيظل يومه يجد ريحها ويضع يده على رأس الصبي فيعرف من بين الصبيان بريحها.
روي أنه نام رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في دار أنس فعرق فجاءت أمه بقارورة تجمع فيها عرقه فسألها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عن ذلك فقالت: نجعله في طيبنا وهو من أطيب الطيب وفي أخبار تزويج فاطمة من علي ـ عليهما السَّلام ـ كان النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أمر نساءه أن يزينها ويصلحن من شأنها في حجرة أم سلمة فاستدعين من فاطمة ـ عليها السَّلام ـ طيباً فأتت بماء ورد فسألت أم سلمة عنه فقالت: هذا عرق رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كنت آخذه عند قيلولة النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عندي. وعن جابر: لم يكن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يمر في طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه سلكه من طيبه.
وذكر إسحاق بن راهويه أن تلك كانت رائحته بلا طيب. وروي أنه كان يتطيب بالمسك حتى يرى وبيضه(5) في مفرقه وكان يستجمر بالعود القماري وكان يعرف في الليلة المظلمة قبل أن يرى بالطيب فيقال هذا النبي.
وعن الصادق ـ عليه السَّلام ـ قال كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ينفق على الطيب أكثر مما ينفق على الطعام. وروي أنه كان يتجمل لأصحابه فضلاً على تجمله لأهله ويقول: إن الله يحب من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيأ لهم ويتجمل.
الزهد والعبادة
روي أنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ صلى حتى انتفخت قدماه وعن أبي جعفر ـ عليه السَّلام ـ قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عند عائشة ليلتها فقالت: يا رسول الله لِمَ تتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا عائشة ألا أكون عبداً شكوراً.
قال: وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقوم على أطراف أصابع رجليه فأنزل الله سبحانه: (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) وقال علي بن الحسين ـ عليه السَّلام: إن جدي رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلم يدع الاجتهاد له وتعبد بأبي هو وأمي حتى انتفخ الساق وورم القدم.
وروي أنه كان إذا قام إلى الصلاة يسمع من صدره أزيز كأزيز المرجل.
وقال ابن هالة: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ متواصل الأحزان دائم الفكرة ليست له راحة. وقال أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ قام رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ليلة يردد قوله تعالى: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم).
ولما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لأبن مسعود اقرأ عليّ قال: ففتحت سورة النساء فلما بلغت: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) رأيت عيناه تذرفان من الدمع فقال لي: حسبك الآن.
----------------------------------------------------------------------
الهوامش
1 ـ أي تخاف.
2 ـ الرمكة: الفرس أو البرذونة تتخذ للنسل (المنجد).
3 ـ اجتدى واستجدى فلاناً: سأله حاجةً.
4 ـ جونة: شيء يشبه قارورة المسك
5 ـ أي بريقه