السيّد نصر الله كان مُصيبًا في هذا الطّرح الذي عزّزه بتصريحات منسوبة إلى مايك بومبيو، وزير الخارجيّة الأمريكي، الذي خيّر اللّبنانيين بين الجُوع الأكيد أو النّهوض والمُساعدات “المُحتَملة” في حال التخلّي عن “حزب الله” في تَحريضٍ للّبنانيين أو القِطاع المُناهِض للمُقاومة من بينهم ضِد الحزب، وجرّه إلى المُواجهة المُسلّحة.
إضعاف المُقاومة وتأليب اللّبنانيين، أو بعضهم ضدّها، يصُب في المُخطّط الإسرائيليّ الأمريكيّ الذي يُريد نزع القوّة العسكريّة الحامِية، لاستِقرار لبنان وأمنه، تَمهيدًا للاستيلاء على ثرَواته النفطيّة والغازيّة في البحر المتوسّط، وإملاء خرائط وترسيم الحدود البحَريّة دون أيّ ضُغوط أو ردع لتَحقيق هذا الهدف.
جميع الشّعوب العربيّة وغير العربيّة التي وقَعت في مِصيَدة التّحريض الأمريكيّ، وانخرطت في مشاريع زعزعة الاستقرار في بُلدانها تحت ذرائع الديمقراطيّة وحُقوق الإنسان دفَعَت ثَمَنًا غاليًا ودون أن تُنفِّذ أمريكا وعودها، ومن بينها الشعب العِراقيّ والسوريّ والليبيّ والأفغانيّ، والشّيء نفسه في بعض دول أمريكا اللّاتينيّة، ولا نُريد التّذكير بالحرب الأهليّة اللبنانيّة التي استمرّت 15 عامًا، وتطوّرت، أو بالأحرى مهّدت لاجتياحٍ إسرائيليٍّ للبنان واحتلال جنوبه، وإقامة ما يُسمّى بالحِزام الأمنيّ في حينها، وهو الحِزام الذي حرّرته المُقاومة بدِماء وأرواح شُهدائها، ولعلّ المُعاملة الإسرائيليّة المُهينة والمُذلّة لعناصر في قوّات لحد العَميلة أحد الأمثلة.
السيّد نصر الله، وفي خطابه الاخير كان هادِئًا ومَرِنًا ويَدرُس كلماته بعناية، وهذا عائِدٌ إلى حساسيّة الوضع اللبنانيّ، وحِرصه على السُّلم الداخليّ، وطَرق كُل الأبواب والخِيارات للتّسريع بالخُروج من الأزَمَة، وإنهاء الفراغ السياسي، والمِثال الأبرز في هذا الصّدد تفنيده لبعض ردود الفِعل على تصريحات لمسؤولين إيرانيين في حرس الثورة تضمّنت “حَشْرًا” لعِبارة تدمير تل أيبب انطِلاقًا من لبنان إذا تعرّضت طِهران لأيّ اعتداء إسرائيلي، مُؤكِّدًا أنّ هذه التّصريحات التي صدَرت بالفارِسيّة التي يُجيدها لم تتضمّن أيّ إشارةً للبنان.
إنّه خِطابٌ جاء من حيثُ توقيته لنَزع فتيل ألغام محليّة بالدّرجة الأولى، ولهذا أكّد حِرص حزبه وكُتلته على استِمرار الحِراك من أجل تحقيق مطالبه الإصلاحيّة المشروعة بالضّغط على الحُكومة ومُؤسّساتها، ولهذا عارَض استِقالة السيّد الحريري مُنذ اللّحظة الأُولى حتى لا يَحدُث الفراغ الحُكوميّ والسياسيّ، ولكن السيّد الحريري اختار الاستِقالة ممّا وضَع البِلاد في مأزِقٍ خطير.
ما لم يَقُله السيّد نصر الله الذي رحّب بكُل الخِيارات المطروحة لتشكيل الحُكومة اللبنانيّة برئاسة السيّد الحريري أو أيّ شخص آخر، مُعارِضًا بقُوّةٍ في الوقت نفسه حُكومة اللّون الواحد، إنّ هذه الاستِقالة، الذي أصرّ عليها السيّد الحريري وفي بِداية الحِراك جاءت بضُغوطٍ أمريكيّة وعربيّة (السعوديّة) من أجل استمرار تأزيم الوَضع اللبنانيّ، وتُذكّرنا في الوقتِ نفسه بنظيرتها التي أُملِيَت عليه أثناء احتِجازه في الرياض لخلق أزَمَة مُماثِلة لنظيرتها الحاليّة.
اعترف السيّد نصر الله بأنّه لا يُريد ذِكر الأسماء، سواءً للدّول المُتورّطة، أو للشخصيّات المُتواطِئة في لبنان مع المُخطّط الأمريكيّ الإسرائيليّ تَجنُّبًا للمزيد من المشاكل لبلدٍ يمُر بحالةِ تأزّم ربّما الأخطر في تاريخه، وهذه حنِكة سياسيّة، وقراءة صحيحة للمَشهد اللبنانيّ، اختلف البعض مع الرّجل أو اتّفق، ففي المُنعَطفات الصّعبة يحتاج المرء إلى الحِكمَة والعض على النّواجِذ، وتَجنُّب ردود الفِعل الغاضِبة، وكظم الغَيظ.
مُسلسل الضُّغوط الأمريكيّة على “حزب الله” ودول محور المُقاومة الأُخرى لن يتَوقّف قريبًا فيما يبدو، فبينما كان السيّد نصرالله يُلقِي خطابه البراغماتيّ “التّصالحيّ”، اتّخذت السّلطات الأمريكيّة قَرارًا بفرض عُقوبات على 3 شخصيّات لبنانية و17 شركة لبنانيّة أوروبيّة تتّهمها بغسل الأموال وتمويل “حزب الله” الذي تعتبره تَنظيمًا إرهابيًّا.
السيّد نصر الله وجّه نصيحتين إلى اللّبنانيين، الأُولى الاتّعاظ بتجارب دول عربيّة قَبِلَت بشُروطٍ أمريكيّة وتخلّت عن دورها وسِيادتها مُقابل الحُصول على مُساعدات أمريكيّة، وفقدت الدّور والسّيادة ولم تَحصُل إلا على الفُتات وعدم الاستقرار، والثّانية التحلّي بالصّبر، والمزيد منه، لأنّ حل الأزَمَة اللبنانيّة سيَأخُذ وَقتًا طَويلًا.
لعل ما نسبه من تصريحات إلى السيدة كرافت، مندوبة أمريكا في الأُمم المتحدة التي قالت فيها “إنّ المُظاهرات ستستمر في لبنان واليمن، وأيّ مكان تتواجد فيه إيران”وليس يتواجد في الفساد قد يُفَسِّر أسباب عدم تفاؤله بحَلٍّ قريبٍ للأزَمَة اللبنانيّة في ظِل الانقِسامات المُتفاقِمة بين النُّخبة الحاكِمة في لبنان، واختِراق بعضها أمِريكيًّا وإسرائيليًّا.
السيّدة كرافت تُريد ضرب عصفورين بحَجرٍ واحد، أيّ الإساءة للحِراك ومُنطَلقاتِه المَشروعة، والتّحريض ضِد “حزب لله” ومحور المُقاومة في الوقتِ نفسه، وهذا أخطر أنواع الشّر في دولة الشّر الأكبَر، وإذا أخطَأنا صحّحونا من فضلكم.
“رأي اليوم”