نص الحديث
قال الامام علي عليه السلام: "الناس ابناء الدنيا، ولا يلام الرجل على حب أمّه".
دلالة الحديث
النص المتقدم يجسد صورة خاصة، يمكن تسميتها من جانب بالصورة المضادة، اي: الموحية بدلالة مضادة لما هو مستهدف من الصورة، اي: ان الصورة المذكورة صورة (تمثيلية) او (رمزية) هدفها حث المرء على نبذ الدنيا، ولكن الصياغة اللغوية توحي وكأن الامام عليه السلام يسوغ التشبث بها بينما هدف الامام هو العكس تماماً، وهذا هو: أحد اساليب البلاغة، كما سنوضح ذلك بعد قليل.
الصورة المتقدمة ذات شطرين، اولهما صورة (الناس ابناء الدنيا) حيث خلع النص طابع (الابن) على الرجل وخلع طابع (الام) على الدنيا، والسؤال اولاً: لماذا جعل النص الدنيا، (اما) ولم يجعلها (أباً)؟ ولماذا جعل الرجل يحب (امه) دون (ابيه) مثلاً؟ ثم: لماذا جعل (الرجل) يحب امه؟ هذه الاسئلة في غاية الاهمية من الزاوية الفنية، فما هي الاجابة؟.
بلاغة الحديث
الشطر الاخر من النص قال "ولا يلام الرجل على حب امه"، وهذا الشطر هو: مورد التساؤل الجديد اي: اذا كان الهدف هو نبذ الحياة الدنيا، فلماذا جعل الامام عليه السلام حب الرجل لأمه غير مقترن باللوم؟ هل هذا يعني: ان المقصود بـ (الرجل) معنى اخر؟ الجواب: قلنا ان من البلاغة ما يتوكأ على التضاد، ثم: ما يتؤكأ على السخرية، ثم ما يتؤكأ على التساؤل او التعجب او التردد ثم ما يتوكأ على الايهام كيف ذلك؟ واضح ان الاساليب المتقدمة: التضاد، السخرية، الايهام (الصياغة الموحية بالتساؤل او التعجب او التردد)، هذه الاساليب اشد اثارة للدهشة أو الاقناع بالفكرة المستهدفة. فاذا قال لك أحدهم: (طوبى لك) وانت تمارس عملاً سلبياً، فهذا يعني انه يسخر منك ويستهجن عملك دون ادنى شك، والنتيجة هي جعلك من خلال السخرية واعياً بانك عملت ما لاينبغي عمله، والامر كذلك بالنسبة الى قوله عليه السلام "ولا يلام الرجل على حب امه".
بقي ان نحدثك عن الدنيا وجعلها (اما) فلأن الام هي المولدة للرغبات بزينتها، واما جعل (الرجل) هو من لا يلام على حب امه فلأن المفردة المذكورة مستقاة ليس من الرجل قبالة المرأة بل من معنى (الفصيل) الذي هو (ولد) الناقة (اعم من الانثى والذكر) حين يفصل عن (امه)، وبهذا يكون النص قد استخدم اسلوباً ساخراً حينما جعل من لا يلام على حب امه هو: الحيوان وليس الانسان الواعي، وبهذا جسد الامام عليه السلام ظاهرة حب الدنيا تجسيداً مثيرا بالنحو الذي اوضحناه.
ختاماً: نسأله تعالى ان يجعلنا ممن ينبذ زينة الحياة الدنيا وأن يوفقنا الى ممارسة الطاعة انه سميع مجيب.