وردوا على الظمأ الفرات ودُونه
البيض القواطع والرماح الشرَّعُ
أسد تـُدافع عن حقائق أحمد ٍ
والحرب من لجج الدِّما تتدفعُ
حفظوا وصية أحمد في آله
طوبى لهم! حفظوا بهم ما استودعوا
واستقبلوا بيض الصفاح، وعانقوا
سُمر الرماح... وبالقلوب تدرّعوا
فكأنما لهم الرماح عرائس
تـُهدى... وهم فيها هيام وُلَّعُ
يمشون في ظلل القنا لم يثنهمْ
وقع القنا والبيض حتى صُرِّعوا
فدماؤهم للسَّمهرية منهل
ونحورهم للمشرفيّة مرتعُ
وجسوهم بالغاضرية خُشَّعُ
ورؤوسُهُم فوق الاسنّة ِ ُترفعُ!
من شهداء كربلاء ومن نالوا شرف الصحبة مع الامام الحسين عليه السلام والتضحية بين يديه... الشهيد عبد الله بن عُمير الكلبيُّ العُليميّ، من بني عُليم فخذ من جناب، وهم بطن من قبيلة كلب... وكنيته ابو وهب.
كان عبد الله بن عُعير فارع الطول، شديد الساعدين، بعيد ما بين المنكبين، وكان بطلاً شجاعاً، شريفاً في قومه، مجرباً. نزل الكوفة، واتخذ داراً عند بئر الجعد من همدان، فنزلها ومعه زوجته المؤمنة (امُّ وهب) بنت عبد، من بني النَّمر بن قاسط.
وفي يوم من الايام رأى عبد الله بن عُمير الكلبيّ قوماً بالنُّخيلة يُعرضون، فسأل عنهم، فقيل له: يُسرَّحون الى الحسين ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله (اي يذهبون لقتاله)، فقال عبد الله هذا: والله لقد كنت على جهاد أهل الشرك حريصاً، وإنيّ لأرجو أن لايكون جهاد هؤلاء الذين يغزون ابن بنت نبيّهم أيسر ثوابا ً عند الله من ثوابه إياي في جهاد المشركين.
ثم دخل عبد الله بن عُمير الى أمرأته فأخبرها بما سمع، وأعلمها بما يُريد، فقالت له وهي ذات النُّبل والنجابة: أصبت أصاب الله بك أرشد أمورك، إفعل وإخرجني معك. فخرج عبد الله بامرأته ليلاً... حتى اتي الحسين عليه السلام، ملتحقا بركبه السماويّ الى حيث كربلاء.
كان اليوم العاشر من المحرّم، وقد التهبت صحراء كربلاء، وشُحذت الهمم للنزال والجدال والقتال!، والامام الحسين صلوات الله عليه مُعدّ نفسه المقدسة واهل بيته النجباء، وأصحابه الابرار الاوفياء، الى رحلة شريفة نحو اسمى مراقي مرضاة الله تبارك وتعالى.
دنا عمر بن سعد يتأبط شراً، فسدد قوس الفتنة، ورمى سهم الخبث، فرمى الناس بعده، وخرج يسار مولى زياد ابن ابيه وسالم مولى عبيد الله بن زياد بن ابيه، فصاحا في ساحة المعركة: من يُبارز؟ ليخرج إلينا بعضكم. فوثبت النخوة الغيورة في الاصحاب، وخرج حبيب بن مظاهر على كهولته الجليلة، وبُرير بن خُضير على حماسه الوثاب، فقال لهما الامام الحسين عليه السلام: إجلسا.
فقام عبد الله بن عمير الكلبيّ قائلاً: يا ابا عبد الله، رحمك الله، إأذنْ لي لأخرج اليهما.
فرأى الامام الحسين فيه رجلاً طويلاً شديد الساعدين، بعيد المنكبين، فقال: إنيّ لأحسبه للأقران قتالاً، أخرج إن شئت.
فخرج عبد الله بن عمير ليسار وسالم، فسألاه: من انت؟!
فانتسب لهما، فأنكرا عليه قائلين: لا نعرفك، ليخرج إلينا زهير أو برير!
وكان يسار مولى زياد قريبا من عبد الله، فقال له عبد الله يستفزَّه للقتال: وبك رغبة عن مبارزة أحد ٍ من الناس؟! أويخرج اليك أحد من الناس إلا ّ وهو خير منك؟!
ثم شدّ عبد الله بن عُمير على يسار ٍ يضربه بسيفه، وبينما هو مشتغل به إذ شدّ سالم مولى عبيد الله بن زياد على عبد الله، فصاح أصحاب الحسين بعبد الله: قد رهقك العبد! فلم يأبه عبد الله بن عُمير حتى ضربه سالم بالسيف، فاتقاها عبد الله بيده اليُسرى فقُطعت أصابعه. ثم مال عبد الله على سالم فضربه حتى أرداه قتيلا بعد أن غشي يسارا ً وقتله.. ثم أقبل عبد الله بن عمير على امامه الحسين عليه السلام فخورا ً يرتجز:
إنيّ امرؤ ذو مِرّة ٍ وعَضب
ولست بالخوّار عند الحرب ِ
إني زعيم لك ِ أم ُّ وَهْب ِ
بالطعن فيهم مُقدماً والضَّربِ
سمعت (ام وهب) ورأت ما كان من زوجها الشَّهم، فهاجت فيها الغيرة حتى اخذت عموداً فأقبلت نحو زوجها عبد الله بن عمير الكلبي تقول له: فداك ابي وأمي، قاتل دون الطيبيّن من ذرية محمدّ صلى الله عليه وآله. فأراد زوجها أن يردها فأبت الحرّة النجيبة، وأخذت بثوبه تمسكه وهي تقول له وقد تعلقت به: لن أدعك دون ان أقتل معك.
هذا وعبد الله ممسك سيفه بيمينه، ويساره مقطوعة أصابعها، فلم يستطع ردَّ زوجته الى خيمتها، حتى اتاها الامام الحسين عليه السلام يقول لها: جُزيتم عن أهل بيت نبيّكم خيراً، إرجعي (رحمك الله) الى النساء فاجلسي معهنَّ؛ فإنّه ليس على النساء قتال. فانصرفت اليهن ّ.
وحمي وطيس المعركة، فحمل عمرو بن الحجاج على ميمنة أصحاب الحسين فيمن كانوا من أهل الكوفة، فردَّهم أصحاب الحسين بأن شرعوا الرماح في وجوههم، فلم تقدم خيل عمرو بن الحجاج نحوهم. ثم لما رجعت الخيل، سدد أصحاب الحسين سهامهم نحو المتخاذلين من جند عمر بن سعد فأردوا جماعة منهم، وجرحوا آخرين.
وحمل شمر بن ذي الجوشن على ميسرة معسكر الحسين عليه السلام فثبت الاصحاب وطاعنوا، وقد قاتل عبد الله بن عمير الكلبي ـ وكان على الميسرة ـ قتال الابطال حتى قتل رجالاً، فحمل عليه هاني بن ثبيت الحضرميّ وبُكير بن حُييّ التيميّ فقتلاه، وما قتلاه وقد خصّه الامام المهدي عليه السلام بسلامه في زيارته الشريفة للشهداء، يقول فيها: "السلام على عبد الله بن عُمير الكلبيّ".