بأبي أفدي وجوها منهم
صافحوا في كربلا فيها الصفاحا
أوجهاً يُشرقن بشراً كلما
كلح العام... ويقطرنَ سماحا
تتجلى تحت ظلماء الوغى
كالمصابيح التماعاً... والتماحا
أرخصوا دون ابن بنت المصطفى
انفاسا تاقت الى الله رواحا
فقضوا صبراً... ومن أعطافهم
أرج العزّ بثوب الدهر فاحا
لم تذق ماءً سوى منبعث ٍِ
من دم القلب به غصّتْ جراحاً!
من الشهداء الذين نالوا العزَّ والفخر، والشرف والكرامة: بشرُ بن عمرو بن الاحدوث الحضرميُّ الكِنديّ... أو هو: بِشر بن عمر الحضرمي ـ كما ورد اسمه في الزيارة الرجبية الشريفة، وتردَّد بعض الرجاليين فيه بين اسم: بِشر وبشير، والظاهر هو نفسه لاتّحاد الاخبار فيه ( رضوان الله عليه).
كان هذا الرجل تابعياً، وله اولاد معروفون بالمغازي ـ كما يذكر الطبري في تاريخه -. وقد جاء بشر الحضرمي الى الامام الحسين عليه السلام أيام المهادنة، فالتحق بالركب الحسيني؛ ليجاهد بين يدي سيّد الشهداء ابي عبد الله، سيد شباب اهل الجنة صلوات الله عليه. وكان لبشر ـ كأصحاب الحسين ـ مواقفه المشرّفة، وثباته وعزمه على نصرة إمام زمانه... فلما جمع الامام الحسين أصحابه قبيل ليلة عاشوراء، قال لهم: (هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً... ذروني وهؤلاء القوم؛ فإنهم لايريدون غيري...)، ما كان من الاصحاب إلا ّ الاصرار على الشهادة بين يدي سيّد الشهداء سلام الله عليه، وكان من اعلانهم النصرة الصادقة قول زهير بن القين: والله وددت أنيّ قُتلتُ ثم نُشِرت.
ثم قُتلت: حتى أُقتل كذا الف مرة، وانّ الله عزوجلّ يدفع بذلك القتل عن نفسك ـ يا ابا عبد الله ـ وعن أنفس هؤلاء الفتيان من اهل بيتك.
وتكلم باقي الاصحاب بما يشبه بعضه بعضا، فجزاهم الحسين خيراً. وهنا ماذا كان موقف بشر الحضرمي يا تُرى؟ الى ذلك.. بعد هذه الوقفة القصيرة.
في الاثناء، قيل لبشر الحضرميّ: إنّ ابنك عمراً قد أ ُسِرَ بثغر الريّ، فقال: عند الله أحتسبه ونفسي، ماكنت أ ُحبّ أن يؤسر وأنا ابقى بعده.
فسمع الامام الحسين مقالة بشر الحضرمي فقال له: رحمك الله، أنت في حل ٍّ من بيعتي، فاذهب واعمل على فكاك ولدك.
فأجاب بشر إمامه بقوله: لا والله لا أفعل ذلك، أكلتني السِّباع حيا ً إنْ فارقتك يا ابا عبد الله.
فقال له الامام الحسين صلوات ربنا عليه: (إذاً أعطِ لابنك هذه الاثواب الخمسة ليعمل في فكاك اخيك). نعم، إذ كان لبشر ابن آخر كان معه في كربلاء، وفي رواية ابن طاووس في (الملهوف على قتلى الطفوف):
قال عليه السلام لبشر: (فأعط ابنك هذه الاثواب البرودَ يستعين بها في فداء اخيه. فأعطاه عليه السلام خمسة اثواب قيمتها الف دينار).
ونقرأ في زيارة الامام المهدي صلوات الله عليه وعلى آبائه لشهداء الطفّ هذه الفقرة الشريفة، وهو يتوجه إلى هذا الشهيد الشهم فيقول:
(السلام على بشر بن عمر الحضرميّ، شكر الله قولك للحسين - وقد أذنَ لك في الانصراف ـ: أكلتني السِّباع حيا ً إن فارقتك، وأسأل ُ عنك الرُّكبان، وأخذُلكَ مع قلة الاعوان، لا يكون هذا ابداً).
وكان يوم عاشوراء فتقدم عمر بن سعد يحمل سهم الفتنة، فرمى به نحو معسكر الحسين عليه السلام قائلاً: إشهدوا لي عند الامير أنيّ أوّل من رمى! ثم رمى أصحابه... فأقبلت السهام من جهتهم نحو الحسين وأصحابه كأنها المطر، فلم يبق أحد ألا ّ أصابه سهم من سهامهم، فنادى الامام الحسين بأصحابه: قوموا (رحمكم الله) الى الموت الذي لابدّ منه؛ فإنّ هذه السهام رُسُلُ القوم اليكم!
قال المؤرخ المعروف ( ابو مخنف): وحمل القوم بعضهم على بعض، واشتد بينهم القتال.. فصبر لهم الحسين عليه السلام وأصحابه... حتى انتصف النهار.
وكتب الشيخ المجلسي في (بحار الانوار): ثمّ حمل شمر بن ذي الجوشن في الميسرة، فثبتوا له، وقاتلهم اصحاب الحسين قتالاً شديداً، وإنما أصحاب الحسين اثنان وثلاثون فارساً، فلا يحملون على جانب مناهل الكوفة إلا ّ كشفوهم... وقاتلوهم حتى انتصف النهار.
وفي (الارشاد) كتب الشيخ المفيد: وحمل عمرو بن الحجاج على ميمنة اصحاب الحسين عليه السلام فيمن كان معه من أهل الكوفة، فلمّا دنا عمرو جثا أصحاب الحسين على الرُّكب، وأسرعوا بالرماح نحوهم، فلم تقدِم خيل عمرو بن الحجاج على الرماح، فذهبت الخيل راجعة، وإذا بأصحاب الحسين يرشقونهم بالسهام، فصرعوا منهم رجالاً، وجرحوا منهم آخرين.
واشتد القتال... ولم يقدر أصحاب عمر بن سعد أن يأتوا عسكر الامام الحسين عليه السلام إلا ّ من جانب واحد؛ لاجتماع الخيام وتقاربها، فارسل عمر رجالا ً ليُقوّضوا خيام الحسين ويُحيطوا بها فأخذ الثلاثة والاربعة من أصحاب الحسين عليه السلام يتخللون الخيام فيشدّون على الرجل المتسلل فيرمونه عن قرب فيصرعونه. فلما عمر بن سعد ذلك، صاح بأصحابه: إحرقوا الخيام بالنار!
إلا أنّ الامام الحسين عليه السلام قال لاصحابه: دعوهم يُحرقوها؛ فإنهم إذا فعلوا ذلك لم يجوزوا اليكم. فكان كما قال(ع).
أما بشر الحضرميّ فيذكر ابن شهْر آشوب المازندرانيُّ أنه قُتل في الحملة الاولى.
وقيل: كان بشر أحد آخر رجلين بقيا من أصحاب الامام الحسين عليه السلام قبل ان يقع القتل في بني هاشم هو وسويدُ بن عمرو بن أبي المطاع.
فسلام على بشر ٍ في الشهداء الطيبين والاصحاب الاوفياء المخلصين والمؤمنين الصالحين.