وصلى الله على سيدنا محمد المصطفى وعلى آله المتقين الأبرار.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأهلاً بكم في برنامجكم هذا آملين أن تقضوا معه وقتاً طيباً ومفيداً.
(بيرم) قرية كبيرة تقع على بعد 375 كيلومتراً عن مدينة شيراز، ولهذه القرية تأريخ مشرف ورجال صالحون رغم التجاهل المؤسف الذي أودع ذلك التاريخ ورجاله الى مغارات النيسان، ومن أولئك الرجال سماحة آية الله الشيخ محمد الحقاني (أعلى الله مقامه) الذي بدأ مسيرته العلمية والعملية من سن التاسعة على يد والده الملا شكر الله (رحمه الله) بتعلمه القرآن الكريم أولاً ثم ارساله الى المدارس الدينية في مدينة (جهرم) و(لار) المجاورتين.
وشق طريقه نحو المعالي الروحية والدرجات العالية فدرس عند أكابر علماء شيراز من أمثال المرحوم آية الله السيد علي الكازروني والسيد الأردكاني والميرزا الشريفي ثم واصل الطريق فنالها في أفضل صورها في حوزة النجف الأشرف على يد أعاظم فقهاء الشيعة من أمثال المرحوم السيد أبي الحسن الأصفهاني والمرحوم الميرزا النائيني والمجاهد الكبير الشيخ كاشف الغطاء وغيرهم (أعلى الله مقامهم).
ونبقى مع سماحة المرحوم الشيخ محمد الحقاني فنقول: كفاه دلالة على شموح رتبته ما اعطى من وكالات وشهادات واجازات كتبها له أولئك الأكابر الأفذاذ.
يقول آية الله الشيخ المحمودي: التقيته بعد ما عاد من النجف واستقر في قريته (بيرم) فقلت له: انك كفاءة علمية ولك وزنك الخاص ومكانتك العالية فلماذا حددت نفسك في مساحة قرية، ولو أقمت هنا في الحوزة اي حوزة قم التي جاءها زائراً لشاعت شهرتك وارتفع مقامك؟
فرد الشيخ الحقاني (رحمه الله) قائلاً: لقد شرح لي آية الله السيد علي اللاري حاجة تلك المناطق المحرومة واقتنعت فنزلت الى رغبته طاعةً واحتراماً أجل، هكذا كان العالم الكبير يعيش مع الحاجة الملحة للناس فلم ينظر الى الأمور من زاوية مصالحه الشخصية، وهذه المواقف الرفيعة في التواضع لا تصدر الا من رجال مارسوا تهذيب انفسهم وترويضها سنوات طويلة.
ونشير هنا الى أهمية تكثيف الدروس الأخلاقية في الحوزات العلمية لتربي الى جانب العلم الأخلاق الحسنة والمعاشرة الطيبة في المتخرجين منها وحول جزء من اخلاق المرحوم الشيخ محمد الحقاني يقول حفيده الشيخ يحيى الحقاني: سمعت جدتي تقول: في شتاء قارس جلس المرحوم الحقاني ليستعد لأداء نافلة الليل وبعدها يذهب الى المسجد لأداء فريضة الصبح كعادته اليومية، فلبس ثوبه وارتدى عباءته ووضع عمامته على رأسه وخرج، ولما عاد بعد طلوع الشمس ناداني على خلاف عادته أن آتيه بثوب، فسألته اين ثوبك الذي كان عليك حين الخروج من المنزل؟
فقال: ائتيني به ولا تسألي عن ثوبي السابق. فلم اصر على سؤالي وجئته بثوب ثم اشتغل بكتبه وكتاباته، وبعد ساعات حضر عنده طلبته واخذوا يدرسون وبعد قليل دخل شخص من المجانين المتجولين في الطرقات وجلس في ساحة المنزل فحملت اليه بعض الطعام وحينما وضعته بين يديه لا حظت ثوبه فاذا هو ثوب الشيخ (زوجي آية الله الحقاني).
وتستمر تلك الزوجة الصالحة في روايتها قائلة: ولما خرج الطلبة وذهب المجنون أخبرت الشيخ بالموضوع وسألته كيف ولماذا اعطيته ثوبك في ذلك البرد الشديد؟
فأجاب قائلاً: عند الصباح رأيت هذا المجنون قد التجأ للمسجد وكان يرتعش من شدة البرد فأعطيته ثوبي!
نعم تكشف هذه القصة عن عدة خصال انسانية واخلاقية قد حوتها شخصية هذا العالم الجليل منها:
أولاً: العبادة والتهجد بالليل.
ثانياً: احياء المساجد خاصة في الصباح.
ثالثاً: جهاد النفس في الخروج من دفء البيت الى برد الطريق وذلك في الدروب الوعرة المظلمة للقرية.
رابعاً: العطاء والايثار.
خامساً: العطف والحنان.
سادساً: صدقة السر وكتمان الانفاق.
ونختم البرنامج - ايها الأحبة الكرام- بمايلي: قال الامام الغزالي (رحمه الله): قد يظن ان معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالقلب والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة، وكاللحم على الوضم، وهذا ظن الجهال فان ذلك حرام والشرع قد أثنى على المتوكلين، فكيف ينال مقام من مقامات الدين بمحضورات الدين، بل انما يظهر تأثير التوكل في حركة العبد وسعيه الى مقصده.
وختاماً - ايها الأفاضل- نشكركم الشكر الجزيل على حسن المتابعة. وحتى اللقاء المقبل باذنه تعالى نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.