والصلاة والسلام على محمد المصطفى وآله الطيبين الطاهرين.
السلام عليكم - مستمعينا الأفاضل- ورحمة الله وبركاته وأهلاً بكم في برنامجكم هذا آملين أن تقضوا معه وقتاً طيباً ومفيداً.
مستمعينا الاعزاء ان أغلب طلبة العلوم الدينية في الحوزات العلمية وخاصة حوزة النجف الأشرف يمرون في دوراتهم الدراسية بدورة الصبر في مواجهة صعوبات الفقر خاصة، وهي دورة لا تخلو من حكمة بالغة كما يقول احد العلماء الذي اضاف ان الطالب الذي يخرج صابراً فقد احتسب اجره عند الله تعالى، ومنه يرجى الخير ما لم تتصدأ روحه بعد المجيء الى الوسط الاجتماعي، ولا زال يدوي في أذني (والقول لأحد العلماء) الحديث النبوي الشريف الذي يبدأ به كل طالب درسه الأول في الحوزة وهو قوله (صلى الله عليه وآله): «أول العلم معرفة الجبار وآخره تفويض الأمر اليه» ولعل الحكمة في ذلك أن يتذكر العالم ما كان عليه سلفاً فيصون نفسه من ألوان الانحرافات عند تصدي شؤون الناس ولكي يقدر الناس اتعاب العالم ويحفظوا حرمته ومكانته ويعملوا بتوجيهاته.
وهنا نقتطف كلمات مما كتبه العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين (رحمه الله) ففيها لكل طالب دروس بالغة الأهمية، حيث قال: كنت حينذاك في بداية الشباب وفي ذروة الحياة الدراسية في النجف الأشرف وحلقاتها العلمية حيث الفقر والحاجة الى حد الجوع وطي الليالي والأيام بلا طعام، وحيث يتيسر الطعام فهو غالباً طعام بسيط فقد كان الشبع من الطعام الجيد ترفاً نادراً، وحيث النوم بلا وطاء او بلا غطاء، وحيث الثياب الممزقة المرقعة، ولبس ثياب الصيف في الصيف والشتاء في بعض السنين ولبس ثياب الشتاء في الشتاء والصيف في سنين أخرى.
ويضيف المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين قائلاً: «والحمد لله على نعمته وفضله وحسن توفيقه، فقد كانت أياماً مباركة رزقنا الله تعالى فيها الصبر، وكانت قسوتها تربية وترويضاً واعداداً لما أراده الله اللطيف بعباده من خير نسأله تعالى ان يقدرنا على بعض شكره وأن يعيننا على تحمل مسؤولياته وان يختم لنا بحسن العاقبة...
كانت حياة قاسية وكان الملاذ من كل ذلك الى الدرس والقراءة وزيارة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ومسجده، وكان من جملة ما نلوذ به اذا مللنا الدرس - وما زال الكلام للمرحوم العلامة شمس الدين- ديوان شعر أو كتاب تأريخ، أو قصة موضوعة او معربة، أو جريدة، وقلما كنا نحصل عليها لأننا لا نقدر على ثمنها أو لا نجرؤ على التظاهر باقتنائها فكانت من قراءات السر، لأن الجريدة والمجلة كانتا في عرف النجف الصارم الحاسم من الأمور العصرية التي تحمل في ثناياها الكفر والضلال وأفكار الأجانب من دول الغرب الكافر الذي غزانا واستعمرنا وأطاح بالإسلام وجاء بقوانينه المخالفة للشريعة... ومن هنا كان القلق على عقيدة وتدين تلاميذها».
مستمعينا الأعزاء: كان المرحوم المقدس الكاظمي (رضوان الله تعالى عليه) واحداً من العلماء الزاهدين الذين تجردت قلوبهم عن حب الدنيا والتلذذ بزينتها، فقد زاره احد علماء البلاط الايراني في النجف الأشرف، ولما دخل عليه في بيته المتواضع تأثر من ضيق معيشته، وكان قد رحب به المقدس الكاظمي ولكنه لما أطال الجلوس قال له: ان زيارتك لي امر مستحب وسبب للثواب ان شاء الله، الا انها مقترنة مع جلوس زوجتي واطفالي تحت حرارة الشمس الحارقة في ساحة البيت اذ ليست عندنا سوى هذه الغرفة التي نحن جالسون فيها الآن، لذلك فاني أخشى أن نقع في امر محرم من أجل أمر مستحب.
فاختصر الزائر جلوسه من غير زعل ثم ودع المقدس الكاظمي وقلبه يعتصر ألماً على فقره وهو بهذه المكانة من العلم والتقوى، فحينما عاد الى ايران سأله الملك: ماذا أتيت لنا من هدية العتبات المقدسة؟
فقال العالم: أتيت لك بقصة عالم كبير هذه معيشته، فنقل القصة الى الملك، فأرسل الملك مالاً كثيراً الى المقدس الكاظمي ولكنه رفض استلام المال، وكلما أصر عليه الرسول وأصر الكاظمي على عدم القبول وسأله عن قصة المال؟
فقال الرسول: ان العالم الذي زارك نقل الى الملك وضعك المعيشي فأهدى اليك الملك هذه الأموال، وهنا أجهش المقدس الكاظمي بالبكاء وأكد عدم قبوله للمال مرةً اخرى، فرجع الرسول مع الأموال الى ايران، وبعد ذلك سئل الكاظمي عن سبب بكائه ورفضه لهدية الملك؟
فقال: ان علم الملك بحالي وارساله هذه الأموال يكشف لي أني مرتكب معصية ما، معصية سببت لي ان يسجل اسمي في ديوان الظالمين!
اجل مستمعينا الأكارم كم جميل ان نتدبر هنا في الحديث القائل: «ان الدنيا مشغلة للقلوب والأبدان، وان الله تبارك وتعالى سائلنا عما نعمنا في حلاله فكيف بما نعمنا في حرامه».
وختاماً - ايها الأحبة الكرام- شكراً لكم على حسن المتابعة وجميل الاصغاء. وحتى اللقاء القادم نستودعكم الباري تعالى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.