هم كبير جثم على صدره... لا يفارقه ليل نهار... هم ثقيل باهض...
لقد صدق من قال: (الهم هم الدَين)...
لابد له من الوفاء للناس بدينها... ولكن من أين يأتي بالمال؟
كل الأبواب موصدة... لم يبق أمامه إلا باب واحد لم يطرقه بعد... صحيح أن حال صاحبه لا يمتاز على حاله بشيء... لكنه قادر على أن يغنيه لو شاء... بل ويغني نفسه أيضاً...!
ليس عليه إلا أن يتناول مما بين يديه... يصطفي ما طاب لنفسه من صفراء وبيضاء... بيدأنه لا يفعل... بل يستحيل أن يفعل...!
أطلق زفرة قصيرة، وقد طافت بمخيلته ذكرى قديمة... هز رأسه علامة الرفض... كلا... لا يريد أن يطرق تلك الباب ثانية... تكفيه تجربة مرة عاشها معه من قبل...!
ولكن ماذا عليه أن يفعل..؟!... لم يعد يطيق نظرات دائنيه أو تلميحاتهم... تلك التلميحات التي ربما منعهم أن يصرحوا بها، حفظهم لذمام أبيه سيد بني هاشم... أو مداراة لمكانة أخيه في زعامة المسلمين... وإلى متى سيدوم ذلك... من غير شك، أن له أجلاً، سينتهي إليه يوماً...!
وذهب به الخيال بعيداً... فرأى دائنيه، وقد شكلوا طابوراً اصطف على باب داره، وكل يصرخ: كفاك مماطلة يا عقيل...! أعد لي حقي يا عقيل...!
فانتفض وقال: لا.. لا.. لابد أن أفعل شيئاً..!
ظلت نفسه تنازعه طويلاً... متردداً بين الأقدام والأحجام... بين الذهاب الى الكوفة... الى حيث مقر أخيه أميرالمؤمنين، وبين عدم الذهاب... يقصده أو لا يقصده... ولماذا لا يقصده؟!
أيكون لأحد أخ بمثل هذا العنوان الكبير، ولا يستعين به أو لا يرفع حاجاته اليه...؟!
وعاودته الذكرى المؤلمة... تلك التجربة القاسية التي لا تكاد تمح من ذهنه...!
قد يحسبها السامع قضية ذا بال... أبداً... بل مجرد طلب صغير تقدم به لأخيه أميرالمؤمنين... ليس طلباً كبيراً أو إستثنائياً...! ...فلا هو يتطلع لتسنم موقع حكومي حساس... ولا نيل هبات أو عقارات أو إقطاعات أراضي... كلا... كل ما طلبه شيء لا يستحق الذكر... لكن علياً امتلأ غضباً... وأغلظ له القول..!!
ومع ذلك... فإنه يعلم أن قلب أخيه، بقي ينز بالألم من أجله... إنه يعرف علياً... ومن غيره أكثر معرفة بعاطفة علي...؟!
لقد ظل الموقف يتفاعل في نفسه، حتى وقف يوماً يحدث أصحابه واللوعة تقطر من كلماته، قائلاً:
والله.. لقد رأيت عقيلاً وقد أملق... حتى استماحني من بركم صاعاً، ورأيت صبيانه شعث الشعور، غبر الألوان من فقرهم... وعاودني مؤكداً، وكرر عليّ القول مردداً... فاحميت له حديدة، ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها... فضج ضجيج ذي دنف من ألمها... فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل...! اتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني الى نار، سجرها جبارها لغضبه؟!
... أجل...تلك هي القضية برمتها... صاع من البُر – القمح – لا غير...!!
...بيدأن الإنصاف يقتضي القول: انه لم يكن لعلي أن يغضب كل هذا الغضب، للبُر أو لغير البُر... إنما كان غضبه، حيث عدها مطالبة بتفضيلي على باقي المسلمين...!!
لقد حمد الله، إذ تناهت إليه كلمات أخيه تلك... فلولاها لظلت اللوعة تعتصر قلبه...! ..لقد كانت مواساة أبلغ من اعتذار!
...ترى...مادام الأمر هكذا...فما الذي يمنعه من معاودة الكرة على أخيه؟!
كان القمر يتلألأ ساطعاً وسط السماء... وبدت الكوفة تحت نوره الكاشف، كلحظة طلوع الفجر، بينة، شاخصة المعالم...
ومن فوق قصر الإمارة، حيث جلس عقيل، راح يسرح طرفه فيما حوله... وقد بدت عليه آثار الرحلة الشاقة من المدينة المنورة، الى الكوفة... حيث مقر حكومة أخيه...
جالت عيناه في سوق الكوفة المجاور، واستطاع رغم بصره الكليل، أن يميز البضائع المكدسة، والصناديق المرصوفة في المخازن...
وفيما كانت عيناه تسرح هناك... كان عقله يبحث عن مدخل لطرح الموضوع الذي جاء من أجله... صعد إليه علي حاملاً طعام العشاء... بسط الخوان، وضع عليه أقراص الخبز وشيئاً من ملح...
نظر عقيل الى المائدة، وتساءل بإنكار:
- ما هذا؟!
أجاب علي بأناة:
- أو ليس هذا من نعمة الله... ولله الحمد؟!
سكت عقيل قليلاً كاتماً غيضه، قبل أن يغلبه فيقول:
- أعطني ما أقضي به ديني، وعجل سراحي، حتى أرحل عنك!
رد علي متمهلاً:
- فكم دينك؟!
- مائة ألف درهم.
أجاب علي كمن فوجئ:
- لا والله... ما هي عندي، ولا أملكها... ولكن انتظر حتى الصباح كيما يخرج عطائي فاواسيكه... صمت قليلاً ثم أردف:
- ولولا أنه لابد للعيال من شيء لا عطيتك كله!
رد عقيل بادي الإنفعال:
- بيت المال في يدك، وأنت تسوفني الى عطائك..؟!
وطفت على وجهه علائم الإستهانة، وهو يضيف:
- وكم عطاؤك، وما عساه أن يكون لو أعطيته كله؟!
شيء كالفزع، اكتسى به وجه الإمام، وهو يسمع إشارة عقيل لبيت المال... تأمل وجه محدثه، وقال:
- ما أنا وأنت فيه، إلا بمنزلة رجل من المسلمين...!
سكت مطيلاً النظر إليه، ثم أضاف، وهو يشير بيده الى جهة السوق:
- إن أبيت ما أقول، فانزل الى بعض هذه الصناديق، فأكسره وخذ ما فيه... سأل عقيل غير مصدق:
- وما في هذه الصناديق؟
- فيها أموال التجار........................... فوجئ عقيل وقال باستنكار:
- أتأمرني إن أكسر صناديق قوم، قد توكلوا على الله، ووضعوا أموالهم فيه؟!
رد الإمام، وقد أشرق وجهه بابتسامة، جهد أن يخفيها:
- أتأمرني أن أفتح بيت مال المسلمين، فاعطيك أموالهم، وقد توكلوا على الله فيه؟!
تكدر وجه عقيل أكثر فأكثر... لمح الإمام ذلك، فتصنّع الجد قائلاً:
- فإن شئت أخذت سيفك، وأخذت سيفي، وخرجنا معاً الى الحيرة، فإن بها تجاراً ميسرين... تدخل على بعضهم، فتأخذ ماله... رد عقيل وقد أشاح بوجهه:
- أو سارقاً جئت حتى أفعل هذا؟
فابتسم الإمام إبتسامة عريضة، وربت على كتف أخيه، وهو يقول:
- نسرق من واحد، خير من أن تسرق من المسلمين جميعاً!!
طالت ملاطفة علي له... فأحس انه ذهب بعيداً في كلامه مع أخيه...! وشعر بضميره يؤنبه...!
...وهل هناك أوضح من المعادلة التي بسطها أمامه:
أن تمد يدك في غفلة من شخص الى ما له أو متاعه فتأخذه، كفعلك عندما تستولي على نصيب جعله الله له في بيت المال... كلاهما سرقه... بل هما أمر واحد...!
أجل... معادلة واضحة وطريقة واضحة... لكنها لم تعد معهودة...!!
فلطالما رأى الأموال – بعد عهد النبي (ص) – تحثى من بيت المال، والأراضي تقتطع، فيستأثر بها رجال دون غيرهم... أجل والله كانوا كما وصفهم علي: ((يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع)) حتى أن بعضهم جمع من هذا وذاك ثروة طائلة، واكتنز من الذهب ما كان يكسر بالفؤوس...!!
والى جانب هذا الاثراء المفرط... كان هناك الكثير، ممن (لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع)...
اضطجع بعد طول جلوس... مواصلاً تأملاته...
ذلك واقع عاشه عن قرب... لشدما آلمه....!!
وخطرت له فكرة، دفعته الى ان يستوي جالساً ثانية...
ترى أكان يريد من علي، أن يدير بيت المال، كما أداره غيره:
يهب من يشاء، ويمنع من يشاء... وكأنه يتصرف بملكه الخاص...؟؟!!
اجتاحته موجة ندم على ما فرط منه من كلام إزاء أخيه... راح يراقب علياً الذي وقف بقربه، وقد انقطع لربه في صلاة خاشعة... مرخياً لدموعه العنان... ترقرقت الدموع في عينيه، اللتين توهجتا وكأنهما انطوتا على نداء صارخ: ليتني لم أقل ما قلت.. ليتني لم أقل ما قلت...!!