إخوتنا المؤمنين الأفاضل...السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ربّ سائلٍ يقول: ما علاقة البكاء بالأخلاق؟ والجواب: إنّ البكاء حالةٌ شعوريةٌ إنسانية تعبّر عن رقّة القلب، ورحمته وعطفه، وهومنطلقٌ من الأخلاق، ومنتهٍ إلى الأخلاق، وذلك لأنّ الباعث على البكاء هو الرحمة والشفقة والمحبّة والحنان، وحصيلته المواساة والوفاء والذكرُ الجميل.
فإذا أضفنا إلى ذلك الحبّ في الله، كان البكاء واقعاً في مرضاة الله. والصدّيقة الزهراء صلوات الله عليها عرفت فيما عرفت بذلك، فهي ذات الشعور المقدّس المنبيء عن العصمة، حتّى أخبر رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّ رضاها هو رضى الله عزّوجلّ، كما أنّ غضبها يعني غضب الله جلّ وعلا، فكيف بكاها وهو نابعٌ من ذلك القلب القدسيّ الذي صاغه الله برحمته، وعنايته؟!
في (الطبقات الكبرى) لابن سعد، و(أنساب الأشراف) للبلاذريّ، و(الاستيعاب) لابن عبدالبرّ، في قصّة شهادة جعفرابن عمّ النبيّ في مؤتة، قالت بنت عميس: دخل رسول الله صلّى الله عليه وآله على ابنتهِ فاطمة وهي تقول: واعمّاه! فقال رسول الله: على مثل جعفرٍ فلتبكِ الباكية.
وجاء في (كفاية الأثر) للخزّار القمّي، و(التمهيد) لابن عبدالبرّ، و(وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى) للسمهوديّ الشافعيّ: روى الحاكم النيسابوريّ عن عليٍّ عليه السلام: إنّ فاطمة كانت تزور قبرعمّها حمزة كلَّ جمعةٍ فتصلّي وتبكي عنده.
وعن رزين: إنّ فاطمة عليها السلام كانت تزور قبور الشهداء هناك وتدعو وتبكي، حتّى ماتت. أمّآ عن الإمام الباقر أبي جعفرمحمّد بن عليّ عليه السلام، فقد روي أنّه قال: إنّ فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله...كانت تزور قبر حمزة، ترُمُّه وتصلحه، وقد تعلّمته بحجر. (أي جعلت له علامةً بحجرٍ ليعلمَ فيزار سلام الله عليه). أفلا يعدّ ذلك - أيها الإخوةُ الأحبّة- من الوفاء والتعزية.
والمواساة والمشاركة الوجدانية والشعورية؟!وكلُّ ذلك من الأخلاق الفاضلة العليا.
وأمّآ بكاء فاطمة الزهراء عليها السلام على أبيها المصطفى صلّى الله عليه وآله فقصّته عجيبةٌ نادرة، فيه البرُّ بالوالد الفقيد، وفيه الذكر الجميل والتذكر بالراحل إلى ربّه تبارك وتعالى، وقد فصّل الإمام الصادق عليه السلام في ذكر البكائين وعدّهم خمسة، هم: آدم ويعقوب ويوسف، وفاطمة وعليُّ بن الحسين، عليهم جميعاً أفضلُ الصلاة والسلام، فجاء في حديثه الشريف ذاك قوله:
"وأمّآ فاطمة عليها السلام، فبكت على رسول الله صلّى الله عليه وآله حتّى تأذّى به أهل المدينة، فقالوا لها: قد آذيتنا بكثرة بكائك! فكانت تخرج إلى مقابر الشهداء، فتبكي حتّى تقضي حاجتها ثمّ تنصرف".
وقد زارت قبره فغشي عليها، فلمّا فاقت نادته: يا أبتاه، انقطعت بك الدنيا بأنوارها، وذوت زهرتها وكانت ببهجتك زاهرة...بكتك يا أبتاهُ الأملاك، ووقفتِ الأفلاك، فمنبرُك بعدك موحش، ومحرابك خالٍ من مناجاتك، وقبرك فرحٌ بمواراتك، والجنّة مشتاقةٌ إليك وإلى دعائك وصلاتك...