البث المباشر

أئمة العدل

الأربعاء 9 أكتوبر 2019 - 10:10 بتوقيت طهران

اذاعة طهران – قصص الصالحين : الحلقة : 50

 

يوم رابع تصرم أوكاد في البحث عن عمل دون طائل...
ماذا يفعل؟!... أيعود الى البيت ليجد وجه أمه المكفهر... أم يبقى يطوف على غير هدى...
لا يدري ما الذي دهى أمه هذه الأيام... يبدو له أن كل همها أن تدفع به خارج البيت... لم تكن لتعامله بكل هذا الجفاء، لولا إخوتها... هكذا بدأ يظن..!
لقد رآها تشتد في تعنيفه، كلما دخل عليهما أحد أخواله... ولكأنما تريد استرضاءه بذلك...
إنه ليحس، كما لو أن الشكوك التي راودته طويلاً في الماضي، بدأت تتحقق... كان يشك أن أخواله لا يبادلونه مشاعر المحبة... بل لعلهم يزدرونه..! ... لكن لماذا؟... ما السر وراء ذلك؟!
في الصغر... كان يرى خيلاءهم وعجرفتهم فيتصور أنها طريقة الكبار في تعاملهم مع الصغار...
لكن هذا التصور سرعان ما توارى عندما تداعت الى ذهنه الصور الباهتة التي إحتفظت بها ذاكرته عن أبيه...
أجل، ذلك كلما بقي له من ذلك الحبيب الذي غاب ولم يعد... لشد ما يعجبه أن يستعيد تلك اللحظات بين يدي أبيه يلثمه ويناغيه.. ويلاعبه..
صحيح انه كان صغيرا آنذاك... ربما لم يتعد أعوامه الخمسة أو الستة إلا أنه كان يشخص بوضوح قرب أبيه من نفسه... بل انه ليحس وكأنهما جسدان في روح واحد... إنهما ليتشابهان في كل شيء... حتى في اللون... إذ وحدته بأبيه، السحنة السوداء، خلافاً لأمه وأخواله...
بلغ بعد مشوار طويل، البيت... هم أن يطرق الباب... إلا انه التفت الى وجود صرة كبيرة هناك...
فوجئ وهو يفتحها... قلّب محتوياتها جيداً.. انه ليعجب فليس فيها غير ثيابه وحاجاته الخاصة... حتى ثوبه الذي اشتراه في العيد...
عجيب... لماذا تلقي أمه بملابسه ومقتنياته خارج البيت؟!!
غلى رأسه بالغضب... فطرق الباب بشدة...
مر وقت قبل أن يسمع صوت أمه، يخاطبه بنبرة غريبة... من خلف الباب:
- من الطارق؟... ماذا تريد؟.. ودون ان تفسح له المجال للجواب... واصلت الكلام:
- خير لك أن تذهب من هنا... انا لا اعرفك...!!
رد غير مصدق، وقد حمل صرة ملابسه بيده...
كيف لا تعرفينني؟ ألست إبنك؟!
جاءه الرد قوياً حاسما، كنصل على القلب:
- كلا.. لا أعرفك... ليس لي ولد..!
تحدث معها طويلاً... مذكراً إياها بصباه... بالحكايات التي كانت تحكيها له قبل أن ينام... بالرياح التي تصفر في ليالي الشتاء عند الأبواب والنوافذ، فتضطره الى الإحتماء بها خوفاً...
ولما أحس بالصمت المطبق... عرف أنه كان يتحدث الى نفسه... إذ لم تعد أمه خلف الباب...
نادى عليها طويلاً فلم ترد عليه... أخذ بالصراخ، فلم يلن قلبها... جلس مسنداً ظهره الى الباب، واضعاً رأسه بين ركبتيه وراح يبكي ويقول:
- يا أحكم الحاكمين... أحكم بيني وبين أمي بالحق...!
وطرق أذنيه على حين غرة، صوت رجل يقول:
- يا غلام لم تدع على أمك؟!
رفع رأسه... فطالعته صورة رجل أثارت الفزع في نفسه... إنه الخليفة... أجل الخليفة عمر بن الخطاب...
أعاد الخليفة سؤاله، ملوحاً ببدرته، وخلفه جمع من مرافقيه وحراسه وخدمه...
استجمع الشاب شجاعته... فلأي شيء يبالي بالحياة، بعد أن فقد آخر من أحبه... ثم قال:
- أجل.. لقد دعوت عليها... لأنها حملتني تسعاً، وأرضعتني حولين كاملين، فلما ترعرعت طردتني، وانتفت مني...
ظل الخليفة ساكتاً للحظات، وقد قدر أنه أمام مشكلة عويصة... ثم أمر مرافقيه بإحضار الشاب وأمه الى المسجد.
إمرأة وشاب وأربعة وأربعون رجلاً، عدهم الحارس بنفسه وهم يدخلون على الخليفة.. ما معنى هذا.. أيكون كل هؤلاء شركاء في دعوى واحدة.
ارتفع صوت الخليفة، مخاطباً الشاب:
- سمعنا منك... دعنا نسمع من المرأة... ثم التفت إليها وقال:
- إن هذا الغلام يدعي إنك أمه، فماذا تقولين؟
تكلمت المرأة بجرأة فقالت:
- إنها لا تعرفه... إنه مدع ظلوم، يريد أن يفضحها في عشيرتها، مؤكدة أنها جارية من قريش، لم تتزوج قط.
ثم تقدم أحد الرجال وقال:
- نحن أربعة رجال إخوة هذه المرأة، وهؤلاء أربعون رجلاً، يشهدون بما قالت...
بانت الحيرة على الملامح الصارمة للخليفة... إلا أنه التفت الى أحد حراسه وقال:
- خذوا هذا الشاب الى السجن، حتى نسأل عن الشهود... وتوترت ملامح الخليفة أكثر، وهو يتوعد الشاب، قائلاً:
- إن عدلت شهادة الشهود، جلدتك حد المفتري...!
أشار الخليفة بيده، فانصرف الجميع، فيما خرج الحراس بالشاب يقودونه الى السجن...
كان الشاب يمشي بين حراسه، بادي الإنكسار، مطرق الرأس... يرفعه بين الفينة والأخرى، رامقاً السماء بطرفه، قائلاً:
- يا أحكم الحاكمين.... دون ان تنقطع هذه الدعوة على لسانه ، أو تتغير...
ولأول مرة ينظر أمامه، ليلمح شخصية في غاية الجلال والهيبة مقبلة في الطريق...
قال مع نفسه: يا إلهي.. أليس هذا الرجل علي بن أبي طالب، إبن عم النبي (ص).. أجل هو... ومن له هذا القدر من الهيبة غيره...
تخاذل الحراس عندما رأوه، وسارعو الى تحيته...
ووجد الشاب نفسه يصرخ من أعماق قلبه:
- يا ابن عم محمد... إنني مظلوم..!!
توقف علي (ع)، وهو يرمق الشاب... قاسه بعينيه الفاحصتين ثم أمر الحراس، بإعادته الى الخليفة.
دخل علي على الخليفة، يتبعه الشاب والحراس، وقال:
- أتأذن لي أن أقضي بينهم؟
رد الخليفة، مظهراً الترحيب:
- يا سبحان الله... وكيف لا، وقد سمعت رسول الله يقول: ((أعلمكم علي))... ثم نادى على الحراس ، ليستدعوا المرأة وشهودها...
- ... وبعد أن وقف الجميع أمامه... إستمع علي الى افادتيّ الشاب والمرأة، فشهادة الشهود... ثم توهجت عيناه ، وهو يقول بصوت نافذ:
- والله لأقضين اليوم بينكما، بقضية، هي مرضاة للرب، من فوق عرشه... ثم التفت نحو الشاب، وهو يقول:
- أما ترضى أن أكون لك أبا، والحسن والحسين أخويك؟
رد الشاب وقد اختنق بعبرته:
- بلى..!
ثم التفت الى المرأة، وقال:
ألك ولي؟... ردت المرأة:
- نعم، هؤلاء إخواني...
نظر علي إليهم، وقال:
- أمري فيكم وفيها جائز؟
ردو بأجمعهم:
- نعم..!
هنا، رفع علي صوته، وهو يقول:
- أشهد الله ورسوله، ومن حضر من المسلمين... إني زوجت هذه الجارية من هذا الغلام، بأربعمئة درهم، والنقد من مالي.
ثم التفت الى مرافقه، وقال:
- يا قنبر... علي بالدراهم...
خرج قنبر مهرولاً... وما أسرع ما عاد، ومعه الدراهم... فنادى علي على الشاب:
- خذ الدراهم وصبها في حجر امرأتك... ولا تأتنا إلا وبك أثر العرس...
فعل الشاب ما أمره علي، وأخذ بيد المرأة، مطالباً إياها بالذهاب معه... فانهارت مقاومة المرأة، منادية:
- الأمان، الأمان، يا ابن عم محمد... تريد أن تزوجني من ولدي؟!... ثم بكت وهي تردف:
- هذا والله ولدي... ثم سكتت.. وأطلقت زفرة حارة، وهي تضيف:
لقد زوجوني هجينا... فولدت منه هذا... فلما ترعرع وشب أمروني أن أنتفي منه...
هيمن الصمت للحظة على المجلس، قبل أن يكسره الخليفة وهو لا زال تحت تأثير هذه المناورة القضائية البارعة:
- وا عمراه، وا عمراه.... ثم التفت الى علي وهو يقول بانبهار:
- لولا علي، لهلك عمر..!!
خرج الشاب من المحاكمة مرفوع الرأس، لكن بعينين دامعتين... عجباً... ألم يربح القضية، فعلام يبكي..؟!
نطقت عيناه بأبلغ من الكلمات: مواساة للمتطلعين التائقين للعدل... الذين أرقّ عيونهم الإنتظار الطويل..!

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة