البث المباشر

بيوت الله

الأربعاء 9 أكتوبر 2019 - 09:51 بتوقيت طهران

اذاعة طهران – قصص الصالحين : الحلقة : 49

 

- أتعرف ذلك الشيخ الكفيف الجالس هناك؟!
سأل الشاب صديقه، وهما يدخلان المسجد النبوي...
- من تعني؟ رد الآخر، وهو يدقق النظر في المصلين.
- ذلك الذي أسند ظهره الى اسطوانة المسجد، معتماً بعمامة سوداء.
- ذاك.. إنه جابر، صاحب رسول الله.. وكيف لا تعرفه؟
- ومن هو جابر؟ أتعني جابر بن عبد الله الأنصاري؟!
- أجل... هو بعينه... هلم أعرفك عليه!.. قال ذلك وأخذ بيد صاحبه، الى حيث جلس جابر...
إنتزع الآخر يده، وهو يقول:
- لا... لا.. لا حاجة لذلك...
- إذن لأي شيء سألت؟
- أحسب أنه لم يعد بكامل عقله...
ظهرت على وجه الآخر علامات الإستنكار، وسأل:
- ماذا... وكيف عرفت؟
- لقد مررت بقربه أمس، وهو جالس وحده، فسمعته يكرر كلمة لا يحيد عنها: يا باقر العلم... يا باقر العلم..!
وتابع:
- أظن أنه يهجر..!
رد الآخر محذراً:
- غض من صوتك، لئلا يسمع..!
وفوجئ الإثنان بصوت جابر، وهو يقول:
- لا والله.. ما أهجر... ولكني سمعت رسول الله (ص) يقول:
"ستدرك رجلاً مني إسمه إسمي، وشمائله شمائلي، يبقر العلم بقرا..."... إبتسم جابر رغم معالم الألم التي طافت بوجهه، وهو يضيف...
- فذاك الذي دعاني لما أقول...
أخذ الشاب يعتذر بارتباك... حاول تقبيل يد صاحب رسول الله... الا أن جابر سحب يده... وأخذ يربت على كتف الشاب، وهو يقول:
- لا بأس عليك يا بني.. لا بأس..
رغم مهامه العلمية والإجتماعية الكثيرة... إلا أنه جعل عيادة المرضى وزيارة المؤمنين، جزءاً من برنامجه اليومي المعتاد...
وفي بيت جابر بن عبد الله الأنصاري، الذي دخله زائراً، راح يتطلع في وجه جابر الذي تغضن، وانطمس نور بصره، بعد عمر من الجهاد والصحبة الطويلة لرسول الله وأميرالمؤمنين...
سأل جابر:
- من أنت؟
أجاب:
- أنا محمد بن علي بن الحسين.
بان الفرح والإهتمام الشديدان على وجه جابر، فقال:
- يا بني أدن مني... فدنى منه...
اختطف صاحب رسول الله يد ضيفه فقبلها... ثم فاضت عيناه بالدموع سروراً... وابتسمت ملامحه... ثم تنفس الصعداء كمن تخفف من ثقل طال حمله، وقال:
- إن رسول الله (ص) يقرئك السلام..!
فقال الضيف:
- وعلى رسول الله (ص) السلام ورحمة الله وبركاته... وكيف ذلك يا جابر..؟
سكت جابر لحظة، وهو يستعيد ذكرى عزيزة على نفسه...
اتخذت نبرات صوته صدى عميقاً، وهو يقول:
- كنت معه (ص) ذات يوم... فقال لي يا جابر... يوشك أن تبقى حتى تلقى ولداً لي من الحسين، يقال له محمد، يبقر العلم بقراً... فإذا التقيته، فاقرأه مني السلام.
شهدت السياسة الأموية أواخر عهدها تذبذباً واضحاً في التعاطي مع معارضيها، سيما أئمة أهل البيت النبوي (ع)... ففيما سجل عهد عمر بن عبد العزيز انفتاحاً كبيراً، كان عهد هشام بن عبد الملك، عبارة عن سلسلة من العمليات القمعية والحربية، كان أهمها: قيام السلطات بالقضاء على التحرك الجماهيري الذي قاده الشهيد زيد بن علي، ومن ثم صلبه وإحراق جسده... وكذلك دسها السم للإمام الباقر(ع)...
وباستثناء عهد الطاغية هشام، فقد أتاحت الأجواء السياسية العامة، المجال للمدرسة العلمية التي أنشأها الإمام الباقر، لأن تشق طريقها، ممهدة لحركة علمية واسعة.. هذا الى جانب النشاط التثقيفي الذي مارسه الإمام من أجل رفد المسيرة الإسلامية بالكوادر التي تتطلبها حركتها... ورفع مستوى الوعي والثقافة لدى عامة الأمة... ولذا فهو لم يكتف بالحلقات الدراسية، كأسلوب لعرض الفكر الإسلامي، بل راح يعقد المناظرات مع قادة الفكر تارة، ويوظف اللقاءات العامة كمواسم الحج أخرى، وينظم مجالس الوعظ وما شاكلها ثالثة...
وتطورت مدرسة الباقر، وامتدت حتى روى عنه، معالم الدين بقايا الصحابة، ووجوه التابعين ورؤساء فقهاء المذاهب.
فهذا عبد الله بن عطاء المكي يقول: ما رأيت العلماء عند أحد قط، أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين... ولقد رأيت الحكم بن عينيه، مع جلالته في القوم بين يديه كأنه صبي بين يدي معلمه.
وهذا عبد الله بن عمر يقول:
- لا أعلم... قال الشيخ بعد تفكير طويل... دون أن يرفع رأسه... حار السائل الغريب... فلقد أرشدوه لعبد الله بن عمر... لكنه لم يجد عنده بغيته، فماذا يفعل؟
رفع ابن عمر رأسه، وقال وهو يشير الى شاب يقف غير بعيد عنهما...
- إذهب الى ذلك الغلام، فسله، واعلمني بما يجيبك.
بقي الرجل واقفاً غير مصدق... أيعجز الصحابي عن إجابته ويستعين بشاب هو في عمر أحفاده..!
هم أن يقول شيئاً، إلا أن ابن عمر أشار إليه برأسه حاثا اياه على العمل بنصيحته... ماذا يفعل، لا خيار ثان أمامه.
أقبل على الشاب الذي تلقاه بابتسامة تملأ النفس بالحبور... طرح سؤاله، فانطلق الشاب يجيب، وكأنه يقرأ في كتاب مفتوح أمامه... أصغى صاحبنا مأخوذاً بجرس الكلمات، وكأنه دفق ينبوع عذب رؤي، ينفذ الى القلب، ويتشربه العقل، بيسر وسلالة...
أراد أن يسأله عن إسمه، إلا أنه خجل... فعاد أشبه بالمسحور الى ابن عمرو... يحدثه بما سمع...
علق الأخير وكأنه يتحدث عن بديهية مفروغ منها:
- إنهم أهل بيت مفهمون..!
سأل الرجل الغريب:
- تعني انه من آل محمد.
- أجل... إنه محمد بن علي بن الحسين سبط النبي (ص).
يا ابن رسول الله... على الباب رجل يقول: إنه قتادة بن دعامة البصري...
بدى الإمام الباقر (ع) كالمتأمل، وقال:
- ليدخل...!
ألقى البصري التحية على الإمام بأدب جم، فرحب به الإمام أطيب ترحيب، وأذن له بالجلوس...
سأل الإمام وعلى شفتيه ابتسامة:
- أنت فقيه أهل البصرة؟!
أجاب قتادة وقد ظهرت على وجهه علائم الحياء:
- نعم..!
فقال الإمام بحزم، دون أن تفارق وجهه الإبتسامة:
- ويحك يا قتادة، إن الله عزوجل، خلق خلقاً، فجعلهم حججاً على خلقه، فهم أوتاد في أرضه، قوام بأمره، نجباء في علمه، إصطفاهم قبل خلقه، أضلة عن يمين عرشه....
فسكت قتادة طويلاً، ثم قال:
- أصلحك الله، والله لقد جلست بين يدي الفقهاء، وقدام ابن عباس، فما اضطرب قلبي قدام أحد منهم، ما اضطرب قدامك.
فقال الإمام:
- أتدري أنى أنت..؟.. أنت بين يدي ((بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة))... فأنت ثمّ ونحن اولئك..!
فقال قتادة:
- صدقت والله، جعلني الله فداك، والله ما هي بيوت حجارة ولا طين...!
تتابعت الكلمات الملهمة تنسكب في أذني البصري... فيما حلّق هو بخياله بعيداً بعيداً... محاولاً أن يرسم حدوداً لآفاق تلك البيوت... إلا أنه رآها تتفلت تتأبى... فاتعبت خياله، بل اعجزته، كما اعجزت من قبل عقله!!

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة