أقبل الفارس يشتد به جواده، حتى إذا ما بلغ مقدمة الجيش ترجل بعجلة، وقال:
- دلوني على أميرالمؤمنين...!
أفسح له المقاتلون الطريق، وقد عرفو فيه أحد رجال الطلائع، متسائلين:
- ما وراءك..؟ ... أجاب الفارس دون أن يتوقف:
- أخذ علينا جيش معاوية الماء... قال ذلك، ثم أسرع ملتمساً طريقه الى خيمة أميرالمؤمنين (ع).
لم يطل مكوث الفارس لدى القائد العام إذ سرعان ما خرج، وهو يقول:
- أدعوا صعصعة بن صوحان، لأميرالمؤمنين... ثم امتطى جواده، وانطلق عائداً من حيث أتى..
ووسط الحشد الذي بدأ يزداد حول خيمة القائد، شق ابن صوحان – الخطيب المفوه وأحد كبار قادة الجيش – طريقه الى الخيمة..
المهمة التي كلف بها صعصعة تتمثل بإيصال رسالة من الإمام الى معاوية، خلاصتها: إنا سرنا مسيرنا هذا، وإنا نكره قتالكم، قبل الاعذار اليكم، وانك قدمت بخيلك تقاتلنا، وبدأتنا بالقتال، وهذه أخرى، حلتم بين الناس وبين الماء... فخل بينهم وبينه... وإن كان أحب إليك، إن ندع ما جئنا له، وندع الناس يقتتلون على الماء، فعلنا...؟!
في صفين، على الشاطئ الأيمن للفرات، قرب الحدود بين سوريا والعراق، التقى الجيشان...
جيش الخلافة المنتخبة، بقيادة علي بن أبي طالب، وجيش الشام بقيادة واليها المتمرد، معاوية بن أبي سفيان...
معاوية الذي قاد أبوه حروب الشرك ضد النبي، قبل أن يضرب (ص) قاعدته الأساسية في مكة ويخضعها لسلطته؛ معاوية هذا رفض الإعتراف بخلافة علي التي كانت مرشحة السماء، قبل أن تصوت لها الأمة، في مهرجان إنتخابي، لم تشهد له دولة الإسلام مثيلاً على الإطلاق.
ولم يكتف معاوية بعدم الإعتراف، بل اعتدى على حدود الدولة الإسلامية بأمل ضم بعض أطرافها إليه... ثم عبأ جيشه متحركاً باتجاه العراق لحرب جيش الخلافة...
ولدى وصول جيشه الى شاطئ الفرات، قبل جيش علي اغتنمها فرصة مناسبة لمنع أعدائه الماء... متصوراً إنه بهذا الإجراء سيقتلهم ضماءاً إن لم يضطرهم الى الإنسحاب.
الرسالة الشفوية التي حملها ابن صوحان، استطاعت شق صف قيادة جيش معاوية... فقد نصح ابن عقبة وابن أبي سرح، معاوية بمنع جيش الإمام الماء... إلا أن عمرو بن العاص، قال:
- خل بين القوم وبين الماء... فإنهم لن يعطشوا، وأنت ريان... وأنت تعلم: أن علياً الشجاع المطرق!
ويبدو أن واقعية عبارة ابن العاص، استفزت معاوية، فأصر على مخالفتها، قائلاً:
يا أهل الشام هذا أول الظفر، لأسقاني الله ولا أبوسفيان، ان شربوا منه أبدا، حتى يقتلوا بأجمعهم عليه...
في ظروف الحرب بالسيف والنبل، ومباشرة القتال جسدياً، يحتاج المقاتل الى توظيف أقصى قوته العضلية...
ونتيجة للجهد المتواصل والظروف المناخية والتعرق الشديد، تتضاعف الحاجة لديه لشرب الماء...
وفي ضوء ذلك، كان الموقف بحاجة الى قرار سريع وحاسم...
وقبل أن يختلط الظلام... قام علي في جيشه خطيبا... فقال: إن القوم قد بدأوكم بالظلم... حتى منعوكم الماء... ثم أجال عينين متوقدتين في جنوده يمينا وشمالا، وقال: ارووا السيوف من الدماء، ترووا من الماء، فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين...
أثارت كلمات القائد الملتهبة العزيمة مضاعفة في صفوف جيشه... فتواثبوا الى سلاحهم... غير أنه أمرهم بالتريث الى الصبح، لينالوا شطراً من الراحة بعد عناء المسير...
...وجاء الصبح وجاء معه الماء، إذ لم تدم عملية جيش الإمام لإستعادة شاطئ الفرات، الا وقتاً قصيرا...
ووصل النبأ الى معاوية، فاضطرب...
فدخل عليه ابن العاص، وعلى وجهه علائم الشماتة، وقال:
- ما ظنك يا معاوية بالقوم إن منعوك الماء اليوم، كما منعتهم أمس، أتراك ضاربهم عليه، كما ضربوك عليه؟!
رد معاوية مدارياً إنكساره:
- دع عنك ما مضى..! فما ظنك بعلي؟
- ظني بعلي أنه لا يستحل منك ما استحللت منه، وأن الذي جاء له غير الماء... أجاب عمرو بيقين تام.
وصدّق علي (ع) ظن ابن العاص... فما هي إلا سويعة أو بعضها حتى وصلت برقيته معاوية: ((انا لا نكافيك بصنعك... هلم الى الماء، فنحن وأنتم فيه سواء)).
وألح بعض جند الإمام عليه، ليمنع الجيش المعادي الماء، بيدَ أن علياً أوضح بمنطقة الرسالي: لا أفعل ما فعله الجاهلون... سنعرض عليهم كتاب الله، وندعوهم الى الهدى فإن أجابوا، وإلا ففي حد السيف ما يغني إن شاء الله.
علي (ع) الذي أراد لبادرته تلك، فتح نافذة باتجاه السلم، والحيلولة دون ارهاق الدماء... عاد يعرض على معاوية التفاوض والكف عن القتال... إلا أن إبن أبي سفيان، الذي عرف أن مآل أي حل سلمي، يعني حذفه من الحياة السياسية، والقضاء على تطلعه الى الملك، أصر على مواصلة الحرب...
وكبادرة أخيرة لحقن الدماء، أرسل علي رسالة مقتضبة الى معاوية... فدفعها هذا الى ابن العاص، وقال اقرأ:
قفزت مشاعر مختلطة على وجه عمرو، وهو يلقي النظرة الأولى على الرسالة وقال:
- إنه يدعوك للمنازلة!
غاضت الدماء من وجه معاوية... فيما أضاف عمرو:
- إنه يقول لك: أبرز لي واعف الفريقين من القتال، فأينا قتل صاحبه، كان الأمر له...
ثم ابتسم قائلاً:
- لقد أنصفك الرجل...
معاوية الذي هاله التحدي، وراح يتردد في رأسه كدوي مفزع...
رد مبرراً عدم استعداده:
- إني لأكره مبارزة الشجاع الأخرق، ثم جمع بين الجد والهزل مخاطباً رفيقه:
- لعلك طمعت فيها يا عمرو.
استطاع الفارس الملثم إثارة الفزع الشديد في جيش معاوية، ولم يمض على بدء القتال، سوى وقت قصير وراح الجنود يتخافتون بينهم:
- من عساه هذا الفارس... من أين نبع... وأين منه مالك الأشتر، كبير قادة جيش علي، الذي كنا نحسب له ألف حساب...
وكما كان هؤلاء في حيرة، كان ابن العاص في حيرة أشد؛ فهو لا يدري كيف دفع به سوء حظه، ليضعه في طريق هذا الفارس... فلقد لمح السيف يبرق موشكاً أن يهوي على هامته... فكان عليه أن يعمل ذهنه بأقصى سرعة ممكنة للخلاص من الموت المحقق... ولمعت الفكرة في رأسه، فلم يتردد في تنفيذها...
أشاح الفارس بوجهه عنه تكرماً... فاستغل عمرو الفرصة، وأطلق ساقيه للريح... ولم يقف إلا عند خيمة معاوية...
فدخل عليه لاهثاً... فقال له صاحبه، بسخرية تقطر شماتة:
- ما صنعت يا عمرو؟!
رد عمرو وهو يحاول لملمة نفسه:
- لقيني علي، فصرعني..!
أطلق ابن أبي سفيان ضحكة مجلجلة، وقال:
- أحمد الله وعورتك! أما والله لو عرفته ما اقتحمت عليه...
فغضب عمرو وقال:
- وهل هو إلا رجل لقيه ابن عمه، فصرعه، افترى السماء قاطرة لذلك دما..؟!
أطلق معاوية صوتاً ساخراً، وقال:
- أبدا... ولكنها معقبة لك خزيا...!
خرج ابن العاص عن طوره، ملتفتاً الى معاوية وهو يقول:
- لقد كنت والله لعلى يمينك يا معاوية عندما دعاك علي الى البراز، فخرج منك ما لا يحسن ذكره...
إحتقن وجه إبن أبي سفيان، غير أنه لم يحر جواباً...
والى مقره، وسط الجيش، عاد الفارس الملثم، فاستقبله جنوده متسائلين:
أقتلت الرجل يا أميرالمؤمنين؟!
أجابهم:
- وهل تدرون من هو؟!
قالوا:
- لا!
فقال (ع):
- إنه عمرو بن العاص، تلقاني بعورته، فصرفت وجهي عنه!!