لم يفارقه إلا سويعات معدودة ، لكنه اشتاق إليه ثانية...
إنه ليحس بلهفة الى لقائه، وسماع كلماته... لهفة العطشان الى الماء، في عمق الصحراء المجدبة الحارة...
هم بالنهوض مراراً، لكنه تراجع... قائلاً مع نفسه: لعل الوقت المناسب لم يحن بعد..
بيدَأنه لم يطق صبراً في النهاية... فخرج ميمماً وجهه شطر بيت النبي (ص).
كان يسير وفي رأسه نزاع بين عقله وعاطفته... عقله يثنيه عن مواصلة الطريق... وعاطفته تلح عليه أن يستمر... يسمعه هو: ما جاء بك في هذه الساعة..!
وتسمعه هي! أهلاً بك، جئت في وقتك..!
لكن ما يخشاه حقا: ان يقطع على النبي استراحته...
... وأخيرا وصل... وقبل أن يسمح للتردد بالسيطرة عليه ثانية، طرق الباب وقال:
أنا جابر، استأذنوا لي على رسول الله..!
وجاءه الإذن بالدخول سريعاً.. تقدم جابر بخطى مترددة، وهو يسمع ضحكات أطفال تتعالى من حجرة النبي...
توقف على عتبة باب الحجرة وتنحنح... فسمع صوت النبي (ص) يدعوه للدخول...
فولج الحجرة مسلماً... غير أنه توقف وقد فوجئ بما رأى...!
كان النبي (ص) يحمل سبطه الحسن والحسين على ظهره، وهو يمشي على أربع... مداعباً إياهما بحركات وأصوات مختلفة... فيما كان الصغيران يشرقان من الضحك سعادة...
لم يملك جابر نفسه من الضحك أيضاً، وقال:
- نعم الجمل جملكما..!
فرد النبي باسماً:
- ونعم الراكبان هما..!
جابر الذي ظل يراقب الموقف.. شاهد ظلال السعادة العميقة على الملامح الكريمة للنبي (ص)... فأنب نفسه... إذ اقتحم عليه، لحظة أنسه بسبطيه، وحرمه من وقت يقضيه بين أسرته... فانسل خارجاً دون إذن، وضحكات الصغيرين تلاحقه...
وعندما أصبح خارج البيت، راح يقول مع نفسه:
يا لعظمة الرسالة... ها هو الرسول يتخطى كل الحواجز الساذجة التي يقيمها المجتمع، رعاية لمواضعات وشكليات فارغة؛ من أجل أن يجسد القيم الإلهية التي ينادي بها...
أجل... فلطالما سمعه يقول: "من كان له صبي، فليتصابى له"
ولن تغيب عن باله، موجة الألم العارمة التي رآها تخيم على الملامح المشرقة للنبي، في مناسبة كهذه...
فقد كان النبي في جمع من أصحابه، يوماً منشرحاً أتم الإنشراح، والحسنان بين يديه، يضاحكهما ويقبلهما، فتدخل رجل، وقال بفضاضته الأعرابية الجافة:
- إن لي عشرة أولاد، ماقبلت أحدهم يوماً..!
هنا طغت سحنة الألم، على وجه النبي، وقال مخاطباً الرجل:
- إنك رجل نزعت من قلبه الرحمة...!
مع جنوح الشمس للمغيب، بدأ المصلون بالتقاطر على مسجد النبي... وشيئاً فشيئاً أخذ المسجد يغص برواده...
وازف موعد الصلاة أو كاد، ولم يحضر رسول الله (ص) بعد...
وعند باب المسجد، حيث وقف عدد من المصلين، ترقباً لمجيئه (ص)، اقترح أحدهم أن يذهب خلفه يتقصى أخباره... فيما دعا آخر للتريث قائلاً:
- إنه (ص) سيأتي لا محالة، متى ما ارتفع صوت بلال مؤذناً...
رد ثالث:
- لكن بلال – هو الآخر – لم يأت بعد....
عاد الأول ليقول – وكأنه يحدث نفسه -:
- أيكون قد ذهب يتفقد النبي... قال ذلك ثم سكت فجأة، كمن خطرت له فكرة...
انسل من بين الواقفين رويداً رويداً... وقد أخذ هذا السؤال يلح عليه: أيكون قد حصل مكروه للنبي... وكمن هيمنت عليه هذه الفكرة، راح يقول بصوت شبه مسموع:
لابد لي أن أتحرك... أن أستعجل... فمن يدري... لا سمح الله... وهل يؤمن الكيد اليهودي، أو غدر أهل النفاق...
بدأ ببيت النبي... فقيل له أنه خرج مصطحباً بلالا، قبل وقت ليس بقليل...
راح يدور في الأزقة... تخلل العديد منها... سائلاً المارة، دون جدوى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
ألقى النبي (ص) السلام، وقد ارتسمت ابتسامة عريضة على ملامحه المشرقة...
تنبه الأولاد، الذين استغرقهم اللعب، على هذه الكلمات الندية الفائضة بالحب... فالتفتوا مستطلعين... ثم هبوا إليه جميعاً.. بعد أن.
أخذ أحدهم بيده الشريفة وراح يلثمها... وألصق ثان نفسه بثيابه فيما وقف ثالث بإزائه، وقال مخاطباً إياه، بصوته الطفولي العذب:
- أتلعب معنا يا رسول الله...! ...وقبل أن يجيبه النبي، أردف:
- إنك كثيراً ما تلعب مع الحسن والحسين..
ضحك النبي (ص)... وقال وهو يمسح على رؤوسهم:
- سوف ألعب معكم...
تقافز الأولاد فرحين... وتبرع أكثر من واحد، لشرح طبيعة اللعبة للاعب الجديد...!
بلال الذي كان مرافقاً للنبي، انتحى جانباً، وقد اخضلت عيناه بالدموع، لما يراه من خلق النبوة وحنوها...
غير أنه ما فتئ يراقب الأفق... وبعد مضي بعض الوقت... تقدم ليقول:
- يكفي، يكفي يا أولاد... أن النبي يريد الذهاب لإقامة الصلاة... وقد طال انتظار آبائكم له في المسجد...
لكنهم لم يردوا على بلال، ولا بكلمة، وكأنهم لم يسمعوه... وواصلوا لعبهم بشغف...
أشار النبي (ص) الى بلال إشارة سريعة ليقترب منه، ثم همس له ببضع كلمات:
مط بلال قامته، معلناً دخوله حلبة اللعب... ونادى بصوت تمثيلي جهور:
- أيها الأولاد، أيها الأولاد...!
التفت الأولاد إليه، فقال:
- ما تقولون في أن يعطيكم النبي شيئاً، لتدعوه يذهب الى شأنه!
تساءل أحدهم، بمعابثة طفولية محببة:
- وماذا يعطينا؟!
ضحك النبي (ص) وقال:
- جوز...
أطلق الأولاد صيحة واحدة، معلنين قبولهم بهذه الصفقة...
فأرسل النبي بلالاً الى بيته، ليعود بالجوز، فأخذه وقسمه بينهم، ثم ودعهم وانصرف.
ظل صاحبنا يضرب هنا وهناك في أنحاء المدينة، دون أن يقع على خبر... ازدادت هواجسه... فسارع من خطوه... مر على صبية يلعبون، وتجاوزهم غير أنه توقف، وعاد إليهم وسأل:
- أيها الأولاد..! ألم ترو النبي، ماراً من هنا؟!
صاح أكثر من واحد منهم:
- أجل..!
وثب نحوهم، وسأل بفرح: متى، متى؟!
تضاحك الصبية مستغربين سلوكه وقال أحدهم:
- لقد كان هنا يلعب معنا قبل قليل..
- يلعب معكم؟!... ما هذا الكلام... رد الرجل بنبرة وشت بتأنيب..
مد الصغير يده في جيبه، مستخرجاً جوزة، وقال ببراءة:
- أنظر..! هذه واحدة من جوزات ثلاث أعطانيها النبي.. أكلت اثنتين واحتفظت بهذه لأختي الصغيرة..!
فتصايح بقية الصبية:
- وأنا... وأنا... وأنا...!
تراجع الرجل قليلاً وهو يفكر: أيعقل أن يتآمر هؤلاء الصغار للعبث به...
تقدم اليه أكبرهم وقال موضحاً:
لقد مر النبي ومعه بلال من هنا، فسلم علينا... فدعوناه للّعب فاستجاب... ثم استأذننا في الذهاب، فلم نرض... فعرض علينا جوزاً فقبلنا!
ضحك صاحبنا لغرابة هذه الرواية، وانقلب عائداً الى المسجد...
ولما بلغه... وجد النبي قد فرغ من الصلاة... فأحاط به رفاقه متساءلين...
تصنع الجد، وهو يقول:
- لقد وقع النبي (ص) ورفيقه رهينتين بأيدي مجموعة، قبل أن يتهيأ لهما وجيه يشفع في خلاصهما...
وجمت وجوه القوم... غير أن الرجل لم يستطع إكمال دوره الذي بدأه فانفجر في الضحك، قاصاً عليهم حكاية الصبية والجوز.