البث المباشر

الخلق الرحب

الثلاثاء 8 أكتوبر 2019 - 14:09 بتوقيت طهران

اذاعة طهران – قصص الصالحين : الحلقة : 45

 

الجاهلية رمز... بشع... مشوه... دموي... حاقد...
لا يجزي وصفه بالوحشي... ذلك أن الوحوش إذا شبعت كفت عن الإفتراس... أما الجاهلية، فإنها لا ترتوي من سفك الدم، وانتهاك العرض... واسترقاق الأحرار... وهدم قيم الخير والإنسانية... تفعل كل ذلك وأكثر ولا تبالي..!!
وفي جزيرة العرب، أرسلت السماء مبعوثها بمهمة ثقيلة... مهمة إخراج الناس من ظلمات الجهل الى نور الإيمان والمعرفة...
فثارت ثائرة الجاهلية، ولاحقت المؤمنين بالتقتيل والتعذيب والتنكيل... وهي تحسب أنها ستقدر بهذا على إخماد جذوة الإيمان في نفوسهم...
وعندما استبان لها عجزها، أعلنتها حرباً شعواء، وكل ظنها أنها ستحفر بذلك للدعوة قبراً...
ولكن الله بالغ أمره... ويشاء تعالى أن ترتفع راية دينه خفاقة عالية... وأن تقوم للإسلام دولة، يكون على رأسها رحمة الله للعالمين، منتخب السماء، المصطفى من البشرية...
ويشاء الباري بعد برهة من الزمن، أن يدعو مبعوثه إليه... ويغيب شخص محمد (ص) عن دنيا الناس...
وتظهر بعده هنات وهنات... حتى إذا ما اطمأنت الجاهلية، أعلنت صراحة عن وجودها وقيام دولتها...
وها هو زعيمها يعلن في اجتماع مغلق حضره بنو أبيه:
"تلقفوها يا بني أمية تلقف الكرة... فو الذي يحلف به أبوسفيان ما من عذاب ولا حساب، ولا جنة ولا نار، ولا بعث ولا قيامة..."
في الفرصة القصيرة الوحيدة التي أتيح للأمة فيها حقاً، أن تعبر عن إرادتها... جاء خيارها تحدياً لقرارات التعيين التسلطي مجسدة إياه في رجل هو مرشح السماء ومنتخب الأمة.
لكن الجاهلية التي إشتد عودها بعد أن غذتها سنون الإنحراف والتخبط، أعلنتها حرباً شعواء عليه... ولم ترعو حتى اغتالته في محراب الصلاة...
وعندها هبت ريحها سوداء قاتمة...فاسيلت الدماء ...وانتهكت الأعراض وسحقت القيم...
وضربت الكعبة الشريفة بالمنجنيق... واستبيحت مدينة الرسول (ص)، حتى بايع أهلها عبيداً لفرسان الجاهلية صوناً لدمائهم... وأخذ الناس على التهمة والظنة... وهدمت الدور وقطعت الأرزاق...
وأصبح السواد بستان لقريش... وأعلن الحاكم صراحة أمام مواطنيه: أنه ما قاتلهم ليصلوا، ولا ليصوموا ولا ليحجوا ولا ليزكوا... إنما قاتلهم ليتأمر عليهم...
وبدون مواربة أيضاً يقول أنه سيبعد معارضيه عن طريقه عبر إطعامهم العسل المعجون بالسم الزعاف...قائلا بمكر ونشوة : إن لله جنوداً من عسل...
وكان النصيب الأوفر من هذه الحرب والعدوان والحقد اللئيم... من هذا العسل الجاهلي، لآل الرسالة...
فسبوا على منابر المسلمين... ودس لهم السم... وقتلوا وسجنوا، وضيق عليهم... ولوحق أولياؤهم ومحبوهم، وقُتلوا تحت كل حجر ومدر...
وظلت سياسة السب، وحملات التشويه مستعرة، يؤججها أصحابها، وهم يقولون: حتى يربو عليه الصغير، ويهرم عليه الكبير...
أجل... لقد أرادت الجاهلية طمس أشعة الحق... غافلة أن شعاع الشمس لا يضمحل.
لم ير المدينة المنورة في حياته... هذه هي المرة الأولى التي يزورها... بل المرة الأولى التي يغادر فيها الشام.
إن كل شيء هنا، ليبدو في عينيه غيره في بلاده...
حتى طبيعة الناس وتعاملهم... إنهم ليبدون له باردين، هادئين أكثر مما ينبغي...
إن أحدهم ليطأ طرف رداء الآخر، فيعتذر، فينتهي كل شيء، وكأن شيئاً لم يحصل..!
يا للرجولة الخاملة، البليدة... لو فعلها معي أحد لأدميت وجهه..!
ولكن.. من هذا الرجل يا ترى... يا له من رجل فخم... يتلألأ وجهه تلألؤ القمر...
مال على صبي في الطريق، يلعب، وسأله، مشيراً بيده:
- أتعرف راكب البغلة؟!
تطلع إليه الصبي مستغرباً... وهل هناك من لا يعرف إبن رسول الله (ص) وقال:
- أظنك غريباً يا عم... ثم ابتسم مضيفاً:
- إنه الحسن بن علي.
إصطبغت سحنة الرجل بلون أرزق، وصاح:
- تقول إنه الحسن... ودون أن ينتظر الجواب هرول خلف الإمام.
تعجب الصبي من فعل الرجل، فحسبه مخلطا...
إعترض الرجل طريق الإمام، وراح يسب، ويهذي بكلمات غير لائقة، بذيئة... وبعد أن أفرغ جعبته، ضحك الإمام وقال:
- أيها الشيخ، أظنك غريباً... ولعلك شبهت؟!
بقيت ملامح الرجل كاسفة عابسة... بيد أنه التزم الصمت... فتابع الإمام باسماً:
- لو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك.
لانت ملامح الرجل وأطرق... فواصل الإمام، والإبتسامة لا تفارق شفيته:
- إن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك...
بان الحياء على وجه الرجل، وبدا مرتبكاً لا يعرف بماذا يرد... فأردف الإمام وقد اتسعت إبتسامته:
- فلو حركت رحلك إلينا، وكنت ضيفنا الى وقت ارتحالك، كان أعود عليك...
الرجل الذي أذهله هذا الموقف الكريم، أحس وكأن الإمام قد أغلق أي باب للإنسحاب، وهو يفتح أمامه كل هذه الخيارات فلبى دعوة الإمام للنزول في ضيافته... غير أنه أسر في نفسه أمراً...
وعلى امتداد الطريق الى البيت... كان الإمام يبادر بالسلام من يلقاه... فيتوقف الآخر إجلالاً... ويرد السلام باحترام شديد، مردفاً كلامه بالقول:
- بأبي أنت وأمي يا بن رسول الله.
فتعجب الرجل، وراح يقول في نفسه يا له من جاه عريض، بل مكانة عظيمة...
وبلغ البيت... فأعجب الرجل بما رأى وقال في نفسه:
يا له من موضع رحيب.
كان بيت الإمام يموج بالحركة... فهؤلاء طلاب العلم... واولئك طلاب الحاجات... وبين هؤلاء واولئك الزوار والضيوف... وفي هذا الوسط الرحب، أحس الرجل أنه خرج تماماً من القوقعة التي حبس فيها... وانفتح على أجواء لم يكن يعرف بها، أو يسمع عنها شيئاً...
كان يرصد كل شيء، مذ دخل هذا البيت... كل حركات الإمام وسكناته... راقبه في سلوكه وأخلاقه مع الناس، فوجده قمة سامقة تفيض حباً ونبلاً وتواضعاً...
لاحظه في عبادته وعلاقته مع الله، فرآه مرتعد الفرائص مصفر الوجه، إذا أقبل على الوضوء... باكياً إذا ذكر الموت والقبر... أما عندما ذكرت القيامة، فإنه شهق شهقة خشاها عليه...
لم يفته شيء.. حتى في مجالسه العلمية شاهده عن كثب، فرآه بحراً زاخراً لا يسبر غوره.
وتنتهي إقامة الرجل في بيت الإمام... فيتقدم من الإمام مودعاً، ويقول بلسان يثقله الحياء وصوت تخنقه العبرة: كنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ، والآن أنت وأبوك، أحب خلق الله إلي، وأردف رافعا صوته:
- أشهد أنك خليفة الله في أرضه... وتناول يد الإمام ليقبلها وهو يقول "اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ".

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة