غمس ريشة الكتابة في المحبرة، وبقي يتأمل برهة، ثم أخرجها وخط فيها عدة كلمات، ثم توقف عن الكتابة، وراح يتأمل من جديد...
ألقى الريشة، ومد يده الى كتاب بقربه، تناوله، تردد في فتحه، لكنه فتحه، أطال النظر في بعض صفحاته... ثم قلب عدداً منها ونظر فيها، ثم عاد يتأمل الصفحات السابقة، قبل أن يعيد الكتاب الى مكانه.
وكمن اكتشف شيئاً غمض عليه، أشرقت أساريره بابتسامة عريضة، وراح يهز رأسه...
تناول الريشة من جديد، وأخذ يكتب بسرعة... حتى إذا ما سود صفحة كاملة، شرع يطالعها، وكلما تقدم في المطالعة، إكفهر وجهه... ثم ما لبث أن ألقى ما في يده، ودفع المنضدة الصغيرة التي إنكب عليها، ونهض برما.
يعقوب بن إسحاق الكندي... ينعتونه بفيلسوف العراق آنذاك...
والإشتغال بالفلسفة ومعايشتها الطويلة، والخوض المستمر في دروبها الشائكة، والدوران في أقبيتها ودهاليزها المظلمة المعقدة؛ يغبش الرؤية، ويجعل الإنسان مرمى لكثير من الأوهام والتخيلات...
وإذ رأينا فيلسوفنا مشغول الفكر، دائم التأمل، فذاك لأن أمراً عظيماً قد شغله... فهو جليس داره منذ زمن ليس بالقليل، متشاغلاً بالقرآن، وفقا لأقيستة الفلسفية، متوهماً إنطواءه على التناقض.
جلس الرجل متأدباً، وعلى ثغره إبتسامة يطبعها الحيا... تمنى لو كان يمتلك قدراً أكثر من الجرأة، لألقى الى الإمام بكل ما يدور في رأسه من أسئلة وإبهامات وشبهات، وبالذات ما يقوله أستاذه الكندي...
كيف.. ومن أين تواتيه الجرأة، وهو بين يدي بقية البيت النبوي، الحسن بن علي العسكري، سلام الله عليه...؟!
حطم الصمت، صوت هادئ ورصين، يقول معاتباً:
- أما فيكم رجل رشيد، يردع أستاذكم الكندي، عما أخذ فيه من تشاغله بالقرآن..
فرح الرجل، وهو يرى الإمام يبادر الى إثارة الموضوع، فرد معتذراً:
- نحن تلامذته، كيف يجوز منا الإعتراض عليه؟!
فعرض عليه الإمام:
- أتودي إليه، ما ألقيه إليك؟
رد الرجل مغتبطا:
- نعم!
أصغى بدقة الى الأمام، وهو يوصيه بالتلطف في مؤانسة الكندي وكسب ثقته، ومسايرته بعض الوقت، كمقدمة لفتح باب الحوار معه.
ثم أرشده الى نقطة البدء، وإدارة الحوار من خلال بعض الأسئلة.
خرج الرجل من عند الإمام وهو جذل... فإن كان قد دخل على الإمام قبل ساعة أعزلاً من السلاح، فقد غدى الآن مسلحاً...
توقف لحظات محاولاً تركيز ما قاله الإمام في ذهنه، ثم عاد يغذ السير.
غمر الكندي الإرتياح، إذ وجد في أحد تلاميذه، من هو أكثر طاعة له وحفاوة من بنيه... لا يريد شيئاً إلا ووجده حاضراً... ولا ينهى عن شيء إلا وسارع للكف عنه... يا له من تلميذ مطيع ومهذب.
...وربما تسرب الى نفسه بعض الشك: لعلها: مأربة لا حفاوة... إلا أنه بالغ في نفي ما جال في نفسه من خاطر سوء...
ثم انصرف الى مراجعة الكتاب الذي بين يديه...
ينبغي أن ينتهي اليوم من المراجعة... إنه ليخشى أن يفارق الحياة ولم ير الكتاب النور... أيجدر أن يسمع الناس بالآراء البكر التي قال بها الكندي حول القرآن، ولا يقرأونها...
وفي تلك اللحظة، استأذن تلميذه الأثير بالدخول عليه... فرحب به وقال مشيراً للكتاب:
- أرجو أن أنتهي منه اليوم.
فابتسم التلميذ، وقال:
- قد حضرتني مسألة أسألك عنها...
- سل يا ولدي... رد الكندي متلطفاً...
قال التلميذ:
- إن أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن... هل يجوز أن يكون مراده، غير المعاني التي قد ظننت إنك ذهبت إليها؟
تأمل الكندي طويلاً قبل أن يقول:
- من الجائز.
شعر التلميذ بشيء من الزهو... إلا أنه حرص إلا يرى ذلك الأستاذ منه، فأطرق وهو يقول:
- فما يدريك، لعله قد أراد، غير الذي ذهبت أنت إليه، فتكون واضعاً لغير معانيه.
رد الكندي وهو يتأمل:
- أعد علي..!
فأعاد التلميد كلامه.
بدا الكندي سارح الذهن للحظات، وراح يقول مع نفسه بصوت شبه مسموع: إن ذلك محتملاً وسائغاً في النظر... ثم التفت الى تلميذه، وقال:
- أقسمت عليك، ألا أخبرتني، من أين لك هذا؟!
أجاب التلميذ متستراً على الحقيقة.
- إنه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك.
فأشاح الكندي بوجهه وهو يقول:
- كلا ما مثلك من اهتدى الى هذا، ولا من بلغ هذه المنزلة...
ثم نزع على كلماته صيغة الأمر، وهو يسأل:
- عرفني من أين لك هذا؟!
فاستخذأ التلميذ وقال:
- أمرني به الإمام العسكري.
فهز الكندي رأسه مراراً وهو يقول:
- الآن جئت به... ما كان ليخرج مثل هذا، إلا من ذلك البيت.
قال ذلك، ثم نهض، وكأنه عزم على شيء ما.
اجتاحت التلميذ، موجة غامرة من الفرح... أحس أن كلمات الإمام التي ألقاها لأستاذه، نفذت الى سويداء قلبه...!
عجباً... أي سر إنطوت عليه تلك الكلمات... وأي سحر وقوة نفوذ تملكها... ولماذا اختار الإمام هذه العبارات دون غيرها... يا له من تشخيص دقيق...
سلام الله عليكم أهل بيت الرسالة... طبكم واحد... وأبوكم المصطفى الدوار بطبه... يا لها من نسخة شافية...!
العجيب: أن الأستاذ شخصها بدقة... قال جازماً: ما مثلك من اهتدى الى هذا الكلام... ما كان ليخرج مثل هذا، إلا من ذلك البيت...
ولكن لماذا تراه نهض بكل هذه المهمة... وما عساه أن يفعل؟!
ونوى في نفسه، إنه لن يغادر مجلس أستاذه اليوم، ما لم يتجلى له هذا الأمر.
لم يطل إنتظار التلميذ... فقد عاد الكندي الى مجلسه، لكنه عاد بجسمه، أما عقله، فقد كان مسرحاً مضطرباً لمعركة حامية الوطيس... كان يهمهم مع نفسه، وكأنه يحاور شخصاً آخر: - كيف فاتك ذلك، كيف...؟ ألم تكن تعرف أن القرآن حمال ذو وجوه...؟!
ثم يجيب نفسه:
- بلى، إنك لتعرف...!
ثم يرد قائلاً:
- إذن لماذا؟... لماذا ركبت هذا المركب الصعب؟!
خمن التلميذ أن الأستاذ يعيش حالة من تبكيت الضمير، أو لعلها ندم على ما أضاع من جهد ووقت في تأليف الكتاب...
فكر في سؤاله... رمقه بنظرة خاطفة، فتيقن أن المعركة لم تضع أوزارها بعد، فتقهقر...
شعر بالمواساة تجاه أستاذه... حقاً أن الأمر ليس بالشيء الهين... فمن الصعوبة بمكان أن يتنازل الإنسان عن رأيه... وهو أن فعل فذو نصيب من الشجاعة كبير..!
إنتبه على صوت الأستاذ ينادي خادمه:
- أسجر التنور...!
نهض ولم تمض سوى دقائق، حاملاً الكتاب بيد، ومشيراً بالأخرى لتلميذه، وهو يقول:
- هيا بنا...!
أطاع التلميذ، دون أن يعرف بغية الأستاذ... لم يكن يعرف أن الكتاب سيصبح طعمة للنار بعد قليل...
وعلى وهج النار التي تأججت أكثر وأكثر بعد أن رمى الكندي الكتاب في التنور، قرأ التلميذ على وجه أستاذه، نهاية المعركة التي كان رأسه مسرحاً لها.
ظل الأستاذ يلاحق بعينيه، آخر أوراق الكتاب المشتعلة، حتى تحول بكامله الى كتلة من رماد... وعندها ابتسم، والتفت الى تلميذه قائلاً:
- أرأيت؟
سارع التلميذ ليقول: نعم... دون أن يفهم ما الذي عناه أستاذه بهذا السؤال... عاد الى بيته بعد أن ودع أستاذه، وذهنه مشغول بما قال... ثم توقف ونكث رأسه بإصبعه، وهو يقول: وجدتها... لابد أنه أراد أن يحملنيها رسالة جوابية للإمام العسكري.