البث المباشر

التضحية الفريدة

الثلاثاء 8 أكتوبر 2019 - 13:29 بتوقيت طهران

اذاعة طهران – قصص الصالحين : الحلقة : 43

 

فشل مهمة الوفد الذي انتدبته الزعامات القرشية الى الحبشة، خلق نكسة نفسية كبيرة لديها، وأثار مخاوفها الحقيقية من خروج الدين الذي بشر به محمد من نطاق سيطرتها في مكة، ليمتد الى آفاق جديدة...
الذي عزز خشية رجال مكة، أن النجاشي زعيم الحبشة، أعطى المسلمين اللاجئين الى بلاده، الحرية التامة في ممارسة عقيدتهم، باسطاً عليهم كامل حمايته...
بل والأكثر من ذلك، إعترافه بشرعية دين محمد... ألم يعلن صراحة أمام الوفد القرشي ولفيف المهاجرين، ورجال الدين والحكومة في بلاطه أن ما جاء به عيسى ومحمد إنما هو نبع من عين واحدة..!
أجل... لقد أصبح أمر محمد خطيراً جداً... ها هو يكتسب الأتباع والأنصار يوماً بعد آخر، رغم التعذيب والتنكيل الذي تصبه قريش عليهم... وها هو يحرز الإعتراف، ليس على مستوى القبائل العربية في جزيرة العرب واليمن، بل وفي الحبشة أيضاً...
ولكن، هل فقدت قريش يا ترى، كل أوراقها الضاغطة، ولم تعد تستطيع الوقوف بوجه تقدم دين محمد... كلا إنها لازالت قادرة على فعل الكثير... إنها تحتفظ بالرأس... إن محمداً نفسه لازال بين ظهرانيها... وماعسى أن يفعل أتباع محمد، إذا ماأصبحوا يوماً ولم يجدوه...!
إرتسمت إبتسامة شيطانية على وجه أبي سفيان الذي كان رأسه نهباً لكل هذه الأفكار... لكنه سرعان ما تقطب متساءلاً في سره، إن كان سينجح في استقطاب آراء رجالات قريش الآخرين لخطته، أم لا؟
على خلاف إجتماعاتها السابقة، أحيط إجتماع دار الندوة هذه المرة بالسرية التامة...
القدر الذي تناقلته الأفواه وقتها: إن الإجتماع الذي عقد بدعوة من أبي سفيان، قد ضم ستة عشر رجلاً من كبار زعامات قريش، وإنه يستهدف مناقشة موضوع في غاية الخطورة.
معالم الوجوم والإحباط الممزوج بالغضب، كانت هي السمة الغالبة على الحضور...
وردد المكان سعالاً مفتعلاً، وصوت عروة بن هشام وهو يقول دون مقدمات:
- نتربص به ريب المنون!
نظر بعضهم في وجه بعض، دون أن ينبس أحدهم بشفة...
تشجع العاص بن هشام، ليقول بحماس زائد:
- بل نخرجه وننفيه من بلدنا، ولا نبالي أين، فنستريح من أذاه.
رد عليه أحدهم: ألم تر حسن حديثه، وحلاوة منطقه...
ثم أجال بصره في القوم، وأضاف:
- لو فعلتم ذلك، لحل على حي من أحياء العرب، فتغلب عليهم حلاوة منطقه، ثم يسير بهم إليكم، حتى يطأكم، ويأخذ أمركم من أيديكم.
تنحنح العاص بن وائل، وقال:
- أنا وأمية نرى أن يبنى له بنيان يستودع فيه، فلا يصل إليه أحد.
أجاب ثان بعصبية:
- بئس الرأي ما رأيتما... لئن صنعنا ذلك، يسمعن هذا الحديث، الحميم والحليف، ثم لتأتين المواسم والأشهر الحرم بالأمن، فلينتزعنه من أيديكم...
جاء الدور لعتبة، ليعبر عن رأيه ورأي أخيه شيبة وأبي سفيان:
- نرحل بعيراً صعباً، ونوثق محمداً عليه، ثم نقطع البعير بأطراف الرماح، فتقطعه إرباً إرباً.
أبو جهل الذي بدا مستهيناً بما سمع، لم يعلق بشيء... بيدأنه قال:
- لكني أرى لكم رأياً سديداً... وهو أن تعمدوا إلى قبائلكم العشر، فتندبوا من كل قبيلة رجلاً نجدا... ثم تسلموه حساماً عضباً – أي قاطعاً – حتى إذا غسق الليل قتلوه... فيذهب دمه في القبائل من قريش، فلا يستطيع بنوهاشم وبنو عبدالمطلب مناهضة قريش، فيرضون بالدية...
تعالت أصوات التأييد من أغلب الحاضرين:
- أصبت يا أبا الحكم... هذا هو الرأي، فلا نعدل به رأياً.
وكما لو أن الرجال ملوا النقاش، أو لعلهم خشوا أن يطرح رأي جديد يثير الخلاف، نهضوا سراعاً بعد أن اتفقوا على ساعة الصفر.
مسح العرق الذي تفصد به جبينه المشرق، وراح يتأمل ثانية الكلمات التي هبط بها الوحي الإلهي إليه آنفاً...
"وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ"(سورة الأنفال/۳۰)
قرأ رسول الله (ص) خيوط المؤامرة بتفاصيلها... فلم ينتظر طويلاً، بل قال: أدعوا لي علياً!
علي (ع) الذي فارق النبي قبل برهة قصيرة، لم يتوان عن إجابة النبي (ص) فدخل عليه ملقياً التحية، ثم سكت تأدباً.
إبتسم النبي (ص) وقال:
- يا علي: أوحى إليّ ربي أن أهجر دار قومي، وأنطلق إلى غار ثور، تحت ليلتي... وأنا آمرك بالمبيت على مضجعي، ليخفى بمبيتك عليهم أمري... فما أنت قائل؟
رد علي وحالة من الترقب تختلجه:
- أو تسلمن بمبيتي هناك يا نبي الله؟
أجاب النبي (ص):
- نعم.
فتبسم علي (ع)، ثم هوى الى الأرض ساجداً شكراً لله، ثم قال:
- إمض يا رسول الله فيما أمرت، فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، وأمرني بما شئت، وما توفيقي إلا بالله.
بدأ الليل يلقي سدوله الثقيلة على مكة... ومع الهدوء الذي أخذ يشيع في أحياءها... كانت هناك أصوات تنطلق في الخفاء متهامسة، دون أن يبين قائلها...!
... وبعد مشوار غير طويل، توقفت الأشباح طويلاً، مترصدة قرب إحدى الدور، وقد انتشرت بنحو يؤكد نيتها ضرب حصار على الدار.
ومع اقتراب منتصف الليل، بدت الدار نائمة مطمئنة... بل لم تكن توحي بأنها آهلة، لو لا وجود فراش في باحتها، تمدد عليه رجل اشتمل ببرد حضرمي...
وفجأة سمع وقع أقدام تجري.. فهب صاحب الفراش الذي بدى في غاية الفطنة... وتفرس في المهاجمين، قبل أن يزعق فيهم زعقة زلزلتهم... ثم اختطف سيف أحدهم، وشد عليهم... فتصايحوا:
- إنك لعلي؟!
قال الرجل:
- نعم أنا علي...
- قالوا إنا لم نطلبك...
حدجهم علي (ع) بنظرة ملتهبة، كأنها تفصح: لأي شيء إذن اقتحمتم الدار.... ردوا بارتباك:
- نريد... نريد محمد، فأين محمد؟
أجابهم علي بتهكم:
- أجعلتموني حارساً عليه...
ثم هز السيف ثانية في وجوههم... فصرخوا:
- إحبس نفسك عنا يا ابن أبي طالب..!
توقف علي كمن شعر بالحرج، وهو يلاحظ شدة الهلع التي المت بالقوم، فجعلتهم يتكدسون عند الباب متدافعين للخروج، غير مصدقين بالنجاة...
ليلة كغيرها مرت في حساب الزمن.. لكنها ليلة خلدتها السماء...
بخس كتاب التأريخ حقها، لكن كتاب الله، عظمها، وأشاد فيها في قرآن يقرأ ليل نهار... لماذا؟!... لأنها شاهدة على أعظم تضحية عرفها التأريخ...
"وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ" (سورة البقرة/۲۰۷)

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة