البث المباشر

العقد المبارك

الثلاثاء 8 أكتوبر 2019 - 13:17 بتوقيت طهران

اذاعة طهران – قصص الصالحين : الحلقة : 42

 

جلس يستريح بعد مشوار طويل من السير الحثيث... لا زالت الصحراء ممتدة أمامه على مرمى البصر... كانت عليه أسمال بالية، مخرقة في أكثر من مكان... وإذا أضافها الرائي الى ملامح الشيخوخة المتهدمة والتعب المضني، حسب صاحبها أنه قد بعث تواً من القبر!
عاد يواصل مسيره ثانية بمشقة وأناة... يمشي مشواراً قصيراً ثم يضع يده على بطنه، وكأنه يعاني ألماً أشد من التعب وجهد المسير الذي بدا عليه واضحاً... وعلى إمتداد الطريق الطويل الى المدينة المنورة وجهته، لم يتحدث الى نفسه كما يفعل المسافر عادة، عندما يخلو له الطريق... كأنه انطوى على سر ما لا يريد البوح به!
توقف ينظر الى الشمس المائلة للمغيب.. كان يخشى أن يحل عليه الليل دون أن يصل الى بغيته.
إستأنف السير وهو يحس أن العطش قد أضر به... تفقد متاعه القليل، والذي لم يكن غير قربة ماء صغيرة... أراد أن يأخذ جرعة منها، بيد أنه كف نفسه، خشية أن تنفد صبابة الماء التي يحملها، فيهلك وسط الصحراء... توقف ثالثة كمن فوجئ... ولأول مرة تنفرج غضون وجهه عن ابتسامة...
إنه يعرفها... أجل، ها هي معالم المدينة المنورة، وإن كانت غير واضحة بعد تمام الوضوح.
صفوف المصلين الطويلة التي انتظمت خلف النبي (ص) كمستطيل امتد مع مسجده الواسع، سرعان ما شكلت نصف دائرة بعد فراغ امام الصلاة، لتتحلق حوله...
وبدا الجميع يتسابقون، ليكون كل منهم الأقرب في مجلسه من النبي...
أما هو (ص) فقد كان يوزع نظراته الحانية بين جلسائه، وعلى ثغره إبتسامة مفعمة بالحب، مكتنزة بالرحمة... تشيع في النفس البهجة والأمن معاً...!
ورغم إشراقة ملامحه الشريفة، إلا أنه كان يمكن للعين البصيرة أن تلمح عليها خطوطاً من الجهد أو الضعف... ربما كانت بأثر الجوع...
من يدري...؟ فلعل النبي صائما...
كان (ص) قد فرغ للتو من الرد على سؤال أحد أصحابه، عندما لمحت عينه شيخاً طاعناً في السن، عليه اسمال خلقه، قد دخل المسجد، ووقف غير بعيد عنه.
أقبل عليه النبي وهو يبتسم مستطلعاً...
ألقى الشيخ السلام بصوت مرتعش، وقال وهو يضع يده على بطنه: يا نبي الله؛ إني جائع الكبد فأطعمني، وعاري الجسد فاكسني، وفقير فارشني (أي أحسن إلي).
اصطبغ المحيا المبارك للنبي بغشاء شفيف أحمر، واطرق ثم قال وقد خالط بسمته الحياء: ما أجد لك شيئاً... ثم رفع رأسه وأردف: ولكن الدال على الخير كفاعله...
قال ذاك ثم حدق في أصحابه، كأنه يبحث عن أحد بعينه، ثم أشار الى بلال، وقال: يا بلال قم فقف به على منزل فاطمة...
محمد (ص) الذي وصفه ربه بأنه (رحمة للعالمين) لم يكن يسيغ طعاماً وعنده جائع... إنه ليقدم طعامه للجياع، ويبقى طاوياً، ربما أياماً...
كان ديدنه عندما لا يجد شيئاً يعطيه لسائل، أن يرسله الى بيت علي زوج ابنته فاطمة (عليهما السلام) ولم تكن هذه المرة، الأولى التي يمر فيها اليوم واليومان والأكثر، والثلاثة جياع، لم يطعموا شيئاً...
كانت فاطمة تحس بالضعف، مترقبة مجيء علي، فلربما حمل الى البيت شيئاً؛ إذ فوجئت بصوت مرتعش لرجل من وراء باب البيت: السلام عليكم يا أهل بيت النبوة...!!
ردت فاطمة: وعليك السلام، فمن أنت؟!
قال صاحب الصوت: شيخ من العرب، أقبلت على أبيك مهاجراً من شقة بعيدة... وأنا يا بنت محمد عاري الجسد، جائع الكبد، فواسيني يرحمك الله..!
سارعت فاطمة الى عقد كان قد أهدي إليها، فناولته للرجل وهي تقول: خذه وبعه، عسى أن يعوضك الله بما هو خير منه.
كان النبي (ص) لا يزال في المسجد وحوله أصحابه، عندما عاد الشيخ، والفرحة الغامرة تطل من عينيه.. تقدم رافعاً صوته اللاهث:
يا رسول الله... أعطتني فاطمة هذا العقد، وقالت لي بعه!
بان السرور واضحاً على القسمات النورانية... ثم سمع صوته المبارك، وهو يبكي بهدوء.
نهض عمار بن ياسر، وقال مخاطباً الشيخ:
بكم تبيع العقد يا شيخ؟
فنظر الرجل الى عمار، ثم مد يده بالعقد إليه، وهو يقول: بشبعة من الخبز واللحم، وبردة يمانية أستر بها بدني وأصلي لربي، ودينار يبلغني الى أهلي...
فقال عمار: لك عشرون ديناراً ومائتا درهم، وبردة يمانية، وراحلتي تبلغك الى أهلك، وشبعك من خبز البر واللحم.
عرف عمار قيمة العقد، فبادر إلى شراءه... لم يكن ليهمه ثمنه في حساب الدنانير والدراهم... المهم أنه يحمل عبير الرسالة...!
فهل تراه يقتنيه، أن يتجر به... وبكم سيقتنع إبن ياسر ثمناً له...؟
حرصاً استثنائياً أبداه للحفاظ عليه... فقد أعد عمار بردة يمانية خاصة، ثم طيب العقد وأدرجه في البردة.
- يا سهم! نادى على غلام مملوك له...
فأجاب غلام بدت عليه مخائل الفطنة:
- نعم يا سيدي...!
- خذ هذا العقد، فادفعه الى رسول الله (ص) وأنت له.
فرح سهم... يا له من شرف كبير... أيتولى خدمة رسول الله بنفسه!
إنطلق كالسهم... ألقى التحية على رسول الله (ص) وأبلغه مقالة عمار....
تبسم النبي (ص)، وقال: إنطلق الى فاطمة، فادفع إليها العقد، وأنت لها...
سهم الذي نال حريته على يد سيدة النساء، ضحك، عندما أبلغته أنه عتيق لله...
فقالت له: ما يضحكك يا غلام؟!
فقال ببديهة حاضرة: أضحكني عظم بركة هذا العقد... أشبع جائعاً، وكسى عرياناً، وأغنى فقيرا، وأعتق عبداً، ورجع الى صاحبه...!!

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة