لا يدري لماذا يحس – رغم لفح الحر – برداً يخامر قلبه...! لماذا كل هذا الشعور من السلام يداعب روحه، منذ دخل البستان صباحاً...
عاد يضرب الأرض بمسحاته بقوة بعد توقف قصير... إنغمس في العمل ساعة في نشاط رؤوب لا يعرف كنهه...
توقف عن العمل ثانية... ركز المسحاة في الأرض مسح العرق عن جبينه الأسود.. مط قامته تدريجياً، ثم انحنى.. إختطف جرة ماء صغيرة بالقرب منه، شرب جرعة منها وأعادها الى مكانها... ألقى نظرة شاملة على البستان... هم أن يتناول المسحاة ثانية، إلا أنه سمع طرقاً على الباب، بادر مسرعاً إليه...
من تراه يتفقده في مثل هذه الساعة من الصباح...! فتح الباب ليفاجأ بسعيد... هتف دون قصد: يا لصديقي المسكين... ما الذي جاء بك في هذا الوقت... أو ترى سيدك أعفاك من العمل اليوم...؟
رد سعيد وغمامة من الألم واليأس تطوف بسحنته السوداء: أتحسب أنه يعفيني ساعة.. لا يا صاحبي.. زفر بقوة وأردف: شدد عليّ أن أعود سريعاً الى البستان.
- هيا الى الداخل!
- كلا لا أستطيع.. إنه يعد علي أنفاسي... جئت أتفقدك سريعاً وأعود...
قال ذلك وأدبر منصرفاً... استوقفه صافي... هرع الى داخل البستان، إختطف جعبة صغيرة كان قد علقها في شجرة التوت القريبة... تناول منها رغيفاً وعاد مسرعاً الى صاحبه... ناوله الرغيف، أظهر الآخر بعض التمنع... ثم أخذ الرغيف وانصرف.
عاد صافي الى البستان وقد ركبه شيء من الوجوم... قصد شجرة التوت، جلس مستنداً الى جذعها... ملامح صديقه سعيد المكدودة، ذكرته بمسيرة العمل اليومي الشاقة التي يكابدها هذا المسكين على يدي سيده اليهودي... قبل شروق الشمس ينطلق الى البستان ضواحي المدينة المنورة، ها هنا غير بعيد عن البستان الذي يعمل هو فيه... ولا يعود من العمل إلا مع حلول الظلام.
كانا معاً قبل أن يبيعهما تاجر العبيد.. هو اشتراه سبط النبي (ص) الحسين (ع)... أما سعيد البائس فكان من نصيب تاجر يهودي.
إبتسم بمرارة وقال: لو لا أن تداركني رحمة ربي لكان مصيري كمصيره، وكتيار جارف إنهالت عليه كلمات سعيد الثائرة المتمردة، وقد تحدثا يوماً عن مستقبلهما...
- عن أي مستقبل تتحدث... عبودية ومستقبل!!
وأردف بنفس النيرات الحادة المتوترة: العمل الشاق واللقمة الجافة والإمتهان والمصير المجهول... وهل لما يسمونه بالعبد أن يفكر بأفق أرحب؟!... ليس له أن يحلم بقدر من الحياة الناعمة أو الترف، فذلك أمر مستحيل... حسبه أن يحقق قدراً من الكرامة الإنسانية، أن تكون له أسرة تحتضنه، وبيت دافئ يؤوي إليه بعد مشوار العمل الطويل والشاق...
حمد الله ثانية، فها هو يرفل بنعمة وكرامة لا يقدران بثمن، أغدق بهما سيده عليه.
أحس أنه تأخر بعض الشيء عن عمله... نهض... أعاد جعبته الى مكانها على الشجرة... وعاد يعمل... لم يدر كم مضى عليه من الوقت... غير أنه عندما نظر الى الشمس، محتمياً بكفه من أشعتها، تيقن حلول صلاة الظهر... ركز مسحاته في الأرض، وأقبل على الساقية، أسبغ الوضوء على عجل، ووقف للصلاة.
انفتل من صلاته.. تناول جعبته الصغيرة، وتهالك عند شجرة التوت ثانية.. مدد رجليه.. شعر بشيء من الإسترخاء في أطرافه.. فتح جعبته.. وانساب الى أذنيه على حين غرة تغريد بلبل وقع على شجرة قريبة.. ترنيمة تأخذ باللب.. يا إلهي أي سحر هذا... كثيراً ما سمع البلبل يشدو... ولكن ليس كهذا الترنيم الهامس كماء رقراق ينساب في السواقي الصغيرة.. كنسيمات الصباح في الربيع، تورق براعم الأمل في الحياة، وتسبغ عليها ألواناً زاهية ساحرة.
تنفس الصعداء وكأنه رأى أن غمامة الوجوم التي حاصرت روحه بعد لقاءه القصير بسعيد تتمزق... بل وينزاح تماماً شبح الكابوس الذي أثقل صدره!
شعر بجفاف فمه... بل ريقه بجرعة ماء من جرته، وحمد الله... إستخرج رغيفاً من جعبته التي سها عنها، وضع كسرة في فمه، وراح يلوكها وهو يمسح البستان بنظرة شاملة.. تناول ثانية وثالثة و... ثم التفت الى الخلف على إثر خشخشة خفيفة...
وقعت عيناه على كلب ضاوي الجسم هزيل... فوجئ لأول مرة، من أين أتى هذا الكلب... إنه ليبدو غريباً.. هز الكلب ذيله بوهن وكأنه يستعطفه...!
سارع صاحبنا الى إلقاء نصف الرغيف الذي بقي في يده إليه... إزدرد الكلب الخبز بسرعة وعاد يهز ذيله..!
همس مع نفسه: أيا للمسكين... كم هو جائع...!
استخرج رغيفاً ثانياً... ألقى بنصفه للكلب وأخذ في تناول الباقي.. وبوغت بمن يحييه... يا الهي إنه صوت سيده.. وهل يخطئه السمع... التفت الى الناحية الأخرى على عجل، ليرى الحسين (ع) بتلك القسمات البهية المشرقة...
قال بشيء من الإرتباك: يا سيدي وسيد المؤمنين، إني ما رأيتك، فاعف عني...!
فقال الحسين (ع) وعلى ثغره إبتسامة محببة، إجعلني في حل يا صافي، لأني دخلت بستانك بغير إذنك..!
رد بحياء: بفضلك يا سيدي وكرمك وسؤددك تقول هذا، أجابه الحسين (ع) والبسمة لا تفارق شفتيه: رأيتك ترمي بنصف الرغيف للكلب وتأكل النصف الآخر، فما معنى ذلك؟!
قال وهو يشير للكلب: إن هذا الكلب ينظر إلي حين آكل، فأستحي منه يا سيدي بنظره إلي...
غابت الإبتسامة فجأة عن وجه الحسين، وكأنها شعلة مصباح إنطفأت.. وبكى.. بكى الحسين (ع)... ثم رفع رأسه، وقال: أنت عتيق لله... وقد وهبتك ألفي دينار!
فقال صافي: إن أعتقتني فأنا أريد العمل ببستانك.. فقال الحسين (ع): (إن الرجل إذا تكلم بكلام، فينبغي أن يصدقه بالفعل.. فأنا قد قلت: دخلت بستانك بغير أذنك، صدقت قولي، ووهبت البستان وما فيه لك).
ملأت أذنيه الكلمات التي فاه بها سبط الرسول (ص)، ووعى معناها تماماً.. ولكن.. أيمكن له أن يصدق أنه لم تعد له صلة بالرق.. إنه فارق عهد العبودية.. إنفك عن سني الذل والإضطهاد التي عاناها قبل أن يحل كريماً على آل البيت النبوي...
أن يرتفع من الوهدة التي كان فيها، إلى مصاف السادة، فيكون له كما للأحرار بيت وأسرة... أن يتعامل معه المجتمع بإكرام وإعزاز...! يا الهي، أحس أن قلبه لا يطيق تحمل هذه الفرحة الكبيرة...
ومع دموع الفرح الغزيرة التي انهمرت على وجهه، كانت كلمات الشكر لله التي لهج بها لسانه تخرج مقطعة مبحوحة...
وفيما اكتست صفحة السماء بحلة الشمس الذهبية بُعيّد الأصيل، امتلأ البستان بزقزقة الطيور العائدة الى أعشاشها، وكأنهما يعدان لمهرجان احتفالي كبير..!!