توقفت قليلاً تلتقط أنفاساً لاهثة، حولت جرتها الخالية من يدها اليمنى الى اليسرى ثم عاودت المسير. إستشعرت أطرافها بعض الراحة إلا أن رأسها ظل مسحاً لأفكار مضطربة هائجة كقوارب مزقت أشرعتها الرياح العاتية. حاولت تنظيم أفكارها لتحدد بالضيط ماذا تريد، ينبغي لها أن تؤمن أولاً الحاجة الآنية. أجل ينبغي لها قبل كل شيء أن تجد شيئاً تسد به الأفواه الصغيرة الجائعة حسبها أن تحصل قوت صغارها اليوم وعلى الله رزق الغد. وسبحت أفكارها نحو الغد، ترى هل سيكون عليها أن تقطع رحلتها اليومية الشاقة؟ أن تمضي هذه الجولة المقيتة بين بيوت الناس تخدمهم وتقضي لهم بعض حوائجهم لقاء أجر بخس لايكاد يفي بحاجتها وحاجة اطفالها اليومية الى الخبز فضلاً عن الادام. وبلغت النهر فهوت الى الجلوس معتمدة على يديها، تنفست الصعداء، مدت يدها الى الماء، إغترفت غرفة بلت بها ريقها واخرى سكبتها على وجهها، مسحت يدها الأخرى بما فضل من الماء ثم أطلقت زفرة طويلة وراحت تخاطب نفسها بصوت مسموع: أثوابهم أصبحت رثة، لم تعد تصلح لشيء، لقد تعبت من الرتق. لاأدري لاأدري كيف أتدبر الأمر؟ هل كتب عليهم البقاء على هذه الحالة التعسة كما كتب عليهم اليتم؟ وتهدج صوتها وهي تضيف: ذهب ليستريح استراحة أبدية وتركني أعاني هذا الشقاء لوحدي! أجل فقد استراح.
وأردفت بحدة وهي تنهض واقفة: جاد بنفسه، بذل بدمه الغالي رخيصاً ولكن هاهم صبيانه يهزلون من الجوع دون أن يخفق قلب من اجلهم!!
إختطفت جرتها بغضب وأركستها في الماء وراحت ترقب فقاعات الهواء المتصاعدة ثائرة متمردة. جاهدت لحمل الجرة التي بدت أثقل من طاقتها وبالكاد استطاعت رفعها الى كتفها ثم إنقلبت عائدة وثورة من الغضب تعصف برأسها!
وفجأة طرق رأسها صوت رجل عارضاً عليها المساعدة. إلتفت فزعة فرأت رجلاً مهاباً عليه ملابس متواضعة وقد تغضى بصره، وضعت الجرة على الأرض وتنحت جانباً. تقدم الرجل وحملها ثم سار متمهلاً، شعرت المرأة بالإطمئنان لنبراته الهادئة الوادعة وهو يسألها عن حالها. ردت بحنق: بعث علي بن أبي طالب صاحبي الى بعض الثغور فقتل وترك عليّ صبياناً يتامى، وليس عندي شيء! وقد ألجئتني الضرورة الى خدمة الناس.
ظهرت على الرجل إمارات القلق إلا أنه لم يجب بشيء وواصل سيره بهدوء وتمهل حتى وصل منزل المرأة، أنزل الجرة من على ظهره ثم ودعها وإنصرف.
والله أني لأغبطك يا مبارك، ها انت تنعم بالحرية بعد أن أنعم عليك سيدك بها! ولكن ألا تقول لي ما الذي دعاك الى تفضيل البقاء في كنفه؟
ماتقول يامسعود؟ ليتك عشت يوماً في هذا البيت الكريم لترى بنفسك كرم الخلق ومامدى الرفق وشدة الشفقة والرأفة!
لقد دعا سيدي أحدنا يوماً فلم يجبه فخرج فوجده على باب البيت فقال له: ما حملك على ترك إجابتي؟
قال: كسلت عن إجابتك وأمنت عقوبتك!
فقال سيدي: الحمد لله الذي جعلني ممن يأمنه خلقه، أمضي فأنت حر لوجه الله!
آه هههه يالسعادته! ولكن اذا كان دأب سيدك شراء العبيد وتحريرهم فمن يبقى لخدمته؟
إنك رجل حديث العهد بهذه البلاد ولو كنت قديم العهد بها لعرفت من يكون أهل هذا البيت. إن رجلاً مثلهم لايشتري أمثالنا إلا لهذا الغرض.
لم أفهم؟!
أعني أنه لايشتري العبيد إلا ليبيعهم. أجل يامسعود حق بك أن تعجب! إن سيدي ينفق من كد يمينه، لينقذنا من براثن الفقر، يرفعنا الى سماء الحرية. إنه ليصعب عليك تصديق أن سيدي حرر أكثر من ألف رجل. اجل أهدى لهم الحرية واعاد لهم كرامتهم وانسانيتهم التي أهدرتها الجاهلية المقيتة.
حقاً! لم تقل لي ما الذي تؤدي الآن من عمل؟
لقد كلفت بالتعرف على منازل الشهداء وإحصاءها حتى يتم إيصال عطاياهم الى أهليهم.
وفجأة قطع عليهما حديثهما دخول رجل بهي الطلعة وفي يده زنبيل، ألقى التحية فنهضا سراعاً، أحاطا به. بادر أحدهما مشيراً الى الزنبيل: إعطني أحمله عنك ياسيدي.
ردّ الرجل معرضاً عن هذه المساعدة: من يحمل عني وزري يوم القيامة؟ ثم نظر اليه نظرة خاصة!
حدق أحدهما في وجه الآخر بدهشة فيما واصل الرجل طريقه وزنبيله في يده!!
إستيقظت المرأة، نهضت تعد نفسها للخروج على عجل وراحت تهمس مع نفسها: يجب عليّ الإسراع، لو أنهم أفاقوا لتشبثوا بيّ ولما إستطعت الخروج!! ولكن الطفال إستيقظوا على صوت الطرقات التي توالت على الباب، فيما إستولى الذهول على المرأة للحظة ثم تحركت نحو الباب. من يطرق بابها في هذه الساعة من الصباح الباكر ياترى؟ وماعساه يريد؟ وهتفت قائلة: من هذا؟
أنا ذلك العبد الذي حمل معك القربة، إفتحي فأن معي شيئاً للصبيان!
رضي الله عنك وحكم بيني وبين علي بن أبي طالب!
دخل الرجل ووضع زنبيلاً كان يحمله على الأرض وقال: إني أحببت إكتساب الثواب فإختاري بين أن تعجني وتخبزي وبين أن تعللي الصبيان لأخبز أنا!!
جزاك الله خيراً، أنا بالخبز أبصر وعليه أقدر! ولكن شأنك والصبيان.
اللهم وفق هذا الرجل وأحفظه في نفسه وأهله. لأعمد أولاً للدقيق فأعجنه ولكن لاأدري إن كان لدي من الحطب ما يكفيني ام لا؟
وإنشغلت المرأة في إعداد الخبز فيما جلس الرجل قرب الموقد يشوي اللحم ويطعم الصغار وهو يضاحكهم ويقبلون عليه فرحين مغتبطين. وتبدلت ملامح الرجل وهو يهمس لكبيرهم: بني إجعلني في حل مما أمرت في أمرك!
نطقت عينا الطفل بحبور وإن لم يعرف ما الذي يعنيه هذا الرجل الطيب.
أرى أن العجين قد إختمر فلولا شجرت التنور يا عبد الله!
أجل! نهض الرجل عجلاً وراح يجمع الحطب ويلقيه في التنور ثم يبحث عن جذوى من نار يوقده بها. ووقف الرجل قرب التنور ينظر الى ألسنة اللهب وهي تلفح وجهه وراح يهمس مع نفسه: ذق هذا جزاء من ضيع الأرامل ويتامى!!
وظل الرجل يحدق في النار المضطرمة وكأنه يرقب من خلال ذلك عالماً آخر، عالماً بعيداً.
ثم يعود الى جانب الأيتام الصغار يلاطفهم ويضاحكهم لتفرغ المرأة لإصلاح الخبز.
يطرق الباب من جديد!!
من هذا؟
أنا جارتك!
أهلاً بك أدخلي.
ودخلت المرأة تتقدم خطوات وتتوقف وقد شلتها المفاجئة!!
مالك؟ تفضلي!
وتشير الزائرة مبهوتة الى الرجل فتقبل الأخرى عليها مبتسمة قائلة: إنه رجل بار محسن رآني أمس وأنا انوء بحمل الجرة فحملها عني واليوم حمل الينا اللحم والتمر والدقيق، ولم يكتف بذلك بل ساعدني في إصلاح الطعام!
ويحك! أتعرفين من هذا؟
كلا! من يكون؟
إنه أمير المؤمنين!!
أمير المؤمنين؟؟ علي بن أبي طالب؟
أجل والله إنه علي!!!
ياويحي ياويحي! لطمت المرأة وجهها وقالت بصوت مبحوح: وا سوأتاه وا خجلتاه! هذا وانا أسمعه الكلام الغليظ وهو ساكت لايفوه بشيء!
تقدمت المرأة من الامام تتعثر بخجلها وإرتباكها وقالت: وا حيائي منك يا امير المؤمنين!
ردّ الامام وهو يغض بصره: وا حيائي منك يا أمة الله فيما قصرت من أمرك!
لفّ المرأة شعور بالخف ولم تعرف ما الذي قالت بعد ذلك وما الذي ردّ به الامام غير أنها تذكر أن عينيه اللتان تشعان هيبة ووقاراً كانت تصافح وجوه الصغار مودعة فتسكبان نظرات حانية حنية.