البث المباشر

مذاق العسل ومذاق العدل

الإثنين 7 أكتوبر 2019 - 10:53 بتوقيت طهران

اذاعة طهران – قصص الصالحين : الحلقة : 11

 

الجو حار ملتهب والرياح الجنوبية تلفح الوجوه بقسوة كأنها بخار متصاعد من مرجل يغلي بنار سرمدية. الصحراء واسعة ممتدة بإمتداد البصر كمحيط لانهائي عجيب إبتلع شواطئه. ثلاثة من الابل الشديدة تشق طريقها بصعوبة وسط الكثبان الرملية المتوهجة بالحرارة. إستحث الرجل الكوفي راحلته وقال مخاطباً رفيقيه الغريبين: ماهي إلا سويعة حتى تلقيا عصا السفر وتستريحا.
مسح الرجل الأول العرق المتصبب من جبهته وقال: نرجو أن نجد مضيفك كريماً كما وصفت!
ردّ الكوفي: بل وأكثر من ذلك.
قال الرجل الثاني بشيء من التهكم: لم يبق إلا أن تقول إنه حاتم الطائي، وأضاف إنك تبالغ ياكوفي!
إنكما لم تعرفا من يكن الرجل بعد. قال الكوفي محتجاً ثم أردف: إنهم أهل بيت لايقاسون بحاتم او غيره.
أياً كان الأمر فإن جلّ ما نرجوه مكاناً ظليل يقينا حر الهاجرة وشربة ماء نبرد بها الغليل ورغيف خبز ندفع به ألم الجوع.
قال الرجل الأول محاولاً وضع حد للجدال: هلموا اذن عسانا نعجل بالوصول.
قال الكوفي ذلك ونكز عصاها مطلقاً صوته بحداء مليح.
إخترقت أزقة الكوفة أعداد من الجمال وهي مثقلة بأحمالها ومن وراءها سار مجموعة من الغلمان. وعندما إنحرفت هذه القافلة الصغيرة عن طريق السوق تطاولت اعناق المارة تنظر اليها بإستغراب. ترى اذا لم تكن هذه البضاعة للسوق فلمن جاء بها ياترى؟
واصلت القافلة طريقها حتى توقفت عند منزل طيني. تسائل أحد الغلمان بلهجة يشوبها الاستغراب: أهذه هي دار الامارة؟
أجل! ردّ الثاني مردفاً: ليس هاهنا الشام ياأحمق، ههه هذه الكوفة حكومة علي!!
إستخذأ الغلمان إعترافاً بجهله وظل واقفاً لايقدم قدماً ولايؤخر أخرى.
صرخ به صاحبه: مالك توقفت؟ لج، ليس هناك من بواب ولاحاجب!
تلفت الغلام متهيباً ولم يبدي حراكة.
ومن داخل الدار أقبل رجا كهل يمشي على عجل. إلتفت الغلام الى صاحيه وسأل: من يكون الرجل؟
إنه قنبر مولى أمير المؤمنين وصاحب بيت المال.
ألقى الرجل التحية وسأل: مافي رحالكم أيها الرجال؟
إنها زقاق عسل أمرنا بإيصالها الى بيت المال. ردّ أحدهم وكأنه يعلن عن نهاية المهمة التي قام بها ورفاقه.
إيه هذه الكوفة!
عجل يارجل! عجل لقد كدنا نهلك! اين صاحبك؟ اين؟ دلنا عليه!
لابأس عليك ها قد وصلنا.
إلتفت الرجل الثالث وقال: ولكنك لم تخبرنا من الرجل؟
أي رجل؟
سبحان الله، الرجل الذي سننزل عنده!
آه الحق معك، كيف لم تعرفه بعد؟
إنه الحسن بن علي.
الحسن بن علي؟ تعني أنه نجل الخليفة؟
أجل أجل إنه الإبن الأكبر لأمير المؤمنين!
نعم ما إخترت، اذن فلنهنئ اليوم بطعام جيد وفراش وفير.
ضحك الكوفي دون أن يعلق على كلام رفيقه.
لازال الرجلان تحت تأثير المفاجأة الأولى عندما إستقبلهما الحسن بحفاوة كبيرة فهما لايستطيعا أن يصدقا بعد أن إبن الخليفة يسكن مثل هذا البيت الطيني القني. وهاهو يستقبلهم بترحيب وحفاوة أنسياهما تعب الطريق. وبلهجة تسيل رقة وأدباً إستمهل الحسن ضيوفه كيما يصلح لهما الطعام وغادرهم ومسحة من الحياة تلون وجهه الأبيض المشرق.
كيف يقدم لأضيافه أقراص خبز جافة هي كل مافي البيت من طعام دون أن يكون هناك شيء من الأدام؟
فجأة خطرت له فكرة فنادى: ياقنبر!
نعم يابن رسول الله.
ياقنبر إذهب وأتني من زقاق العسل بمقدار نصيبي من بيت المال فقد نزل بي ضيوف وماعندي ما أطعمهم، واذا وزع امير المؤمنين العسل فخذ نصيبي ورده الى بيت المال.
أوشك قنبر أن يقول شيئاً غير أنه تحرك دون أن ينبس ببنت شفه.
صراع شديد نشب في رأسه. ترى ماذا عليه أن يفعل؟ أيمكنه أن يعتذر إبن أمير المؤمنين، الشخص الذي كان يستأثر بحب رسول الله ويحظى لديه بكل تلك المكانة. لا لا، لايمكن إعتذاره في أمر بسيط بل لاقيمة له كهذا. ولكن ما عساك أن تقول لأمير المؤمنين ياقنبر؟ أنسيت قطعة الحلي التي إستعارتها بنت الخليفة الصغيرة؟ جاءتك ام كلثوم تمشي على إستحياء وقالت: إنها تريدها لتتزين بها في العيد وتعيدها في اليوم التالي. أكنت تحسب أن علياً يغضب كل ذلك الغضب لمثل هذا الأمر الهين؟
لحظ عينيه وهو يعطفها ويقول: أعدها الى بيت المال، كانت حمراوان مخيفتان وياليتك لم تسمع كلمات العتاب التي سمعتها منه. لقد كانت أشد على نفسك من التقرير والتوبيخ بل من العقاب ايضاً. وكيف لي أن أنسى العهد الغليظ الذي أخذه عليّ؟ أجل ياأمير المؤمنين أعاهدك أن لاأفتح بيت المال بوجه اهلك وذويك او أي كان. ولكني أفتحه الآن. ما عساي أن أقول لوأطلع امير المؤمنين على ما انا فاعل؟ وهل يقنع مني هذه المرة بالعتاب وحده؟ ولكن هل يعد إعطائي مقداراً بسيطاً، أجل بسيط من العسل تجاوزاً للعهد ذاك؟ إنني سأتولى بنفسي إعادته الى بيت المال. إنني أستحي، لاأستطيع أن أرد الحسن لأمر تافه كهذا !!
ياقنبر؟
نعم يامولاي، لاأدري لماذا شعر بالإرتباك وهو يسمع صوت أمير المؤمنين!
نهض من فوره، تحرك بسرعة ثم وقف بين يدي الخليفة. عاد بعد لحظات، لم يكن هناك مايخيف. كل مافي الأمر أن الخليفة ينوي توزيع المؤن الموجودة في بيت المال وماعليه إلا القيام بوظيفته العادية والمناداة بذلك في المسجد. عاد الى حجرته وقد زايله الإضطراب، تناول كساءاً له ملقى في زاوية وراح يرتقه.
ياقنبر؟ تردد صوت علي من جديد في أنحاء المكان.
نعم يامولاي، ذهب مهرولاً: نعم ياامير المؤمنين.
ولكن الحجرة خالية، اين الخليفة؟ أيكون ذهب كعادته لتفقد بيت المال؟
دخل لاهفاً، أجل إنه هناك، يا إلهي لماذا يقف أمير المؤمنين أمام زقاق العسل؟ لقد بان له النقص من غير شك. نظر في عينيه ليستا حمراوين، يبدو أنه ليس غاضباً. أشار بيده الى زق. أجل هو بعينه، نفس الزق الذي اخذ منه. يا إلهي ماذا يقول؟ الامام ينتظر، ماعساه يقول؟ لايمكن أن يكذب! لايمكن أن يكذب، ليقول أي شيء! أي شيء! ههه ههه الحق ياأمير المؤمنين إنني اخذت شيئاً منه.
عينا الامام تسمرتا عليّ، لا إنه لايعبء بهذا الكلام، يريد أن يعرف، يريد الحقيقة، لابد أن أعترف، لابد أن أقول كل شيء. لقد طرق الحسن الضيوف ولم يكن لديه ما يطعمهم فطلب إليّ أن أقرضه من بيت المال مقداراً من العسل وأن أعيده من حصته اذا قسمت الزقاق.
هنا لمح عيني الخليفة وقد لمعت بالحمرة المخيفة!!
عاد الحسن من توديع ضيوفه.
أجب أمير المؤمنين، إستقبله قنبر بهذه العبارة المقتضبة. إلا أنه أضاف: الامام غاضب لأخذنا العسل!!
تملك الحسن الخوف بيد أنه هرول الى حجرة امير المؤمنين وعند عتبة الباب توقف قليلاً ثم دلف بخطوات مرتبكة لكنها سريعة ودون أن يتبح له فرصة الكلام إنكب على قدمي أبيه وقال بنظرات مخنوقة: بحق عمي جعفر إلا ما عفوت! وبقي مطرقاً لايرفع رأسه.
قال علي وقد ذهب بعض غضبه: ماحملك أن تأخذ من عسل المسلمين قبل قسمته؟
أجاب الحسن بإستعطاف: أليس لي فيه حق كغيري من المسلمين؟
بلى ولكن ليس لك أن تنتفع به قبلهم! وأردف بنظرة وعيد: أما والله لولا أني رأيت رسول الله يقبل ثناياك لأوجعتك ضرباً.
وتوقف قليلاً ثم قال: قم وأشتري عوضه ورده الى الزق الذي اخذته منه.
ويقف علي بعد فراغه من الصلاة يوزع العسل بين المسلمين ويراهم ينصرفون مغتبطين راضين فيجلس وقد ذرفت عيناه الدموع وهو يقول: اللهم إغفر للحسن!!

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة