البث المباشر

الفجر الصادق ۲

الإثنين 7 أكتوبر 2019 - 09:50 بتوقيت طهران

اذاعة طهران – قصص الصالحين : الحلقة : 6

 

خلاصة حلقة الأسبوع الماضي
عدّل أبو عمرو من هيئته وقال متفاخراً: هه لقد كنت معنا عندما غزونا بني الأشهل.
هزّ ابو الوليد رأسه
وواصل: كم كان مباغتاً هجومنا ذاك!!
هزّ الرجل رأسه مرة اخرى.
ضحك أبو عمرو بصوت عال وقال: إن إستطاع بنو الأشهل النجاة ببعض أسلابهم فإنا لن نترك لبني النمير هذه المرة شيئاً ههههههه. لقد حللنا المال والطعام وسقنا السبي بما عليهن من الحلي وإقتد الضلف والخف والحافر.
ويتواصل الحديث على هذا المنوال في أحد اندية قريش. أجل وهل للعشيرة العربية يوم ذاك حديث غير هذا الحديث، حديث الغزو والغارة على بعضها البعض، حديث القتل والسلب والسبي. حديث الثارات والدماء، حديث الجاهلية الرثة المتعصبة، حديث الصحراء القاحلة المجدبة. كان الحديث متواصلاً بين أبي الوليد وأبي عمرو وعمارة، غير أن دخول احد الغلمان قطعه.
أهههه ماذا وراءم يارباح؟
سيدتي ضربها الطلق ولابد من عودتك ياسيدي الى البيت.
ثم ينتقل بنا الراوي الى بيت خيّم عليه الحزن والكآبة، عدد من النسوة يجلسن في رحبة الدار وعيونهن تفيض بالدموع وبين الحين والآخر كن يقفن يتطلعن بأسى الى احدى زوايا البيت حيث إنطوت امرأة على نفسها. كان المشهد ينطق بالألم والحزن ويوحي بأن مأساة او نكبة ما قد حلت بأهل هذا البيت، غير أن الحقيقة غير هذه تماماً فالبيت يعيش اليوم فرحة غامرة او هكذا ينبغي له فقد رزق عمارة وليدة جميلة لم ير الحي مثلها. اذن لماذا إختنقت زغاريد الفرح لتتحول الى شهقات بكاء؟ دعونا نتملى هذا القادم! إنه عمارة، تتسمر عيون النسوة عليه فيما يتقدم هو بخطوات واسعة ويسأل: ها أذكر ام أنثى؟؟
وعندما يأتيه الرد يهجم على زوجته التي إحتضنت طفلتها وقد تجمدت الدماء في عروقها ويستلها منها بقوة.
اجل شيمة الجاهلية أن تدفن البنت الوليدة في التراب، أن تأدها ببراءتها وطهرها!
ولكن أي شعور متلبد وأي إحساس جامد وأي قلب ميت متحجر يحمل ذلك الانسان الجاهلي على دس وليدته الصغيرة البريئة في التراب؟ او الإغارة على اخيه وجاره فينهبه ماله ويسبي عياله وينزل به الفواجع والنكبات؟ ترى إلام يبقى الانسان أسير الجاهلية والتعصب؟ متى ينفض عن نفسه كل هذا الركام البغيض؟ متى تحين ساعة الخلاص؟ ومن هو المخلّص؟ من هو المنقذ الذي ينتشل الناس من هذه الهوة السحيقة ويلقى بهم الى مكانتهم السامية الرفيعة؟ من سيكون؟ من؟
وفجأة يطرق أسماعنا هذا الحوار: أجل يا اخاه أجل إن ديننا الحنيف يأبى كل هذه المواضعات الجاهلية، الناس عنده سواء كأسنان المشط. رسولنا صلى الله عليه وآله يقول: كلكم لآدم وآدم وآدم من تراب. أجل ياأخاه إن الله تبارك وتعالى يريد لعباده العيش بكرامة وسلام، لايعتدي احد على احد ولايغتصب أحد حق أحد. حديث غريب ولكنه جميل شيق، حديث الدين الجديد، إنه حديث الاسلام الذي لم يزل أمره سراً يبشر بدعوته رجال قليلون.
بينما كان الرجلان المسلمان في حديثهما ذاك حتى فوجئا بحديث رجال في إثرهما وراودتهما الظنون، أيكون أمرهم قد أفتضح؟ أتكون قريش قد عرفت بأمر الدعوة الجديدة؟ ويقترب الرجال فيتلاشى خوف المسلمين.
أحسب أنهم ماضون لغير شأننا؟ هل عرفتهم؟ يبدو لي أنهم من غلمان عمارة؟
أجل أجل!! ولكن ما هذا الشيء الذي يحملون؟ أهو طفل؟
وبعد أن يعرف المسلما حقيقة الموقف يعزمان على إنقاذ الطفلة البريئة. وهكذا كان، فقد باع الغلمان الطفلة الصغيرة بدراهم معدودة وكانوا فيها من الزاهدين.

القسم الثاني

كانت مكة غافية تبات في سبات ليلها البهيم وليس هناك ما يعكر عليها صفوها او يقلق هجعتها الطويلة إلا حديثاً بدا خافتاً ثم مالبث أن تصاعد وتصاعد..
صحيح أن حفيد عبد المطلب يقول إنه نبي؟؟
أجل ويدعو الناس الى عبادة إله واحد!!
ها إله واحد؟
وأكثر من ذلك، إنه يعيب علينا آلهتنا ويسفه احلامنا!
صحيح ماتقول؟
أجل وهبل!!
عجباً!! أيظن هذا الفتى أن قريشاً ترضى له ذلك وتغضي عن إهانة دينها ودين آباءها؟؟
وهكذا استيقظت مكة، أفاقت وراحت ترقب الحدث الجديد وتتسائل: أيكون محمد بن عبد الله نبياً؟ أيمكن أن يكون هذا الرجل الذي عرفت صدقه وأمانته صغيراً وصلاحه وإستقامته كبيراً أيمكن أن يكون مدعياً؟ واذا كان نبياً حقاً فهل تتبعه؟؟ هل تتخلى عن آلهتها، عن أعرافها وتقاليدها، عن مكانتها ومركزها بل عن أيامها وماضيها التليد؟؟
لا، لايمكن ذلك، لايمكن أبداً. صرخ صخر بن حرب في وجه محدثيه وهو يحثهم على ضرورة مواجهة الرسالة الجديدة وإستطرد بأوداج منتفخة: إن محمداً يريد لنا أن نكون نحن وعبيدنا متساوين كأسنان المشط!!! ههههههه وأطلق ضحكة هستيرية.
قطع عليه أحد الحاضرين ضحكته وقال: إن هذا الأمر أدعى بالإكبار منه بالسخرية ياأبا سفيان!
نظر اليه أبو سفيان شزراً وتسائل: ما تعني؟؟
أعني أن الرجل يعرف من أين تؤكل الكتف، فهو بكلامه ذاك يدغدغ مشاعر العبيد فيهيجهم على سادتهم وبالتالي يكسب الى صفه قوة لايستهان بها.
نكس أبو سفيان رأسه وقد غلب على أمره، فيما إنفلت من الجمع رجل كهل وصرخ: أتخشون تمرد عبيدكم؟ ههه
رفع أبو سفيان رأسه وقال: هات ماعندك يا أبا جهل.
ردّ أبو جهل وهم يحمحم: ليس لهم عندي إلا السوط !
حدّق أبو سفيان قليلاً في وجه أبي جهل ثم نهض وقال: أجل السوط، السوط والعذاب! ثم راح يصرخ وهو يضيف: ليس العبيد وحدهم بل كل من تطاله أيدينا!!
أطلق الجمع صيحات الحماس والتأييد وراحوا ينفضوا شيئاً فشيئاً..
إنطلقت الدعوة الاسلامية تتسور الحواجز والعقبات التي بنتها الجاهلية اللئيمة وتفتح القلوب عنوة وتنشر أما إتجه النور والرحمة والسلام. ورغم العنف القرشي الذي ضرج الأرض بالدماء الشهيدة وشحن الجو بآهات المؤمنين المعذبين وأنات الجائعين الساغبين فقد استمر النبي صلى الله عليه وآله ينقل خطواته الرسالية بحكمة وأنات غير عابئ ولامكترث بكل ما يجري حوله من مساع ومحاولات يائسة لوأد الرسالة وإطفاء نورها. وكانت كلماته الربانية المنيرة تضيء الدرب امام اتباعه وتمسح على جراحاتهم برفق وحنو ورحمة فيندفعون وهم أشد قوة. وتمضي الأيام ويأم البيت الحرام جمع من أهل يثرب ويلتقيهم النبي صلى الله عليه وآله عارضاً دعوته عليهم فتنساب كلماته الهادية الصافية الى نفوسهم ويشرح الله صدورهم بالاسلام فتترع قلوبهم المتعطشة بالايمان. وهكذا مع تزايد أنصار الرسالة فيها تتحول يثرب الى قاعدة حصينة للاسلام وينزل الوحي حاملاً أمراً إلهياً، قراراً كان له الأثر الخطير في تقرير مصير الرسالة ورسم مستقبلها الوضاء المشرق.
طرق الباب عدة طرقات متوالية ووقف ينتظر بفارغ الصبر. وعندما إستبطأ فتح الباب همّ أن يهتف بإسم صاحبه إلا أنه كمّ فمه في اللحظة الأخيرة وعاد يطرق بطريقة اخرى، طرقتين، طرقة، طرقتين وسرعان مافتح الباب.
عمار؟ أدخل أدخل!!
ألقى عمار التحية بشكل عاجل وقال: تهيء فالرسول أصدر امره بالهجرة.
الهجرة؟
أجل الهجرة الى يثرب!
إتسعت حدقة الرجل دهشة إلا أن صاحبه عالجه بالقول: لقد أسلم الكثير من اهل يثرب ودعو الرسول صلى الله عليه وآله ليكون بين ظهرانيهم، يحمونه ويذبون عن الدين كما يذبون عن أنفسهم وأهليهم.
ها! بشرك الله بالخير يا عمار ورحم أبواك.
على بعد المسافة بين الحقيقة والخيال او الواقع والطموح نحس أحياناً أنهما أشد ما يكونان من أحدهما الآخر دونواً وإقتراباً فعندما تمتد الصحراء القاحلة المجدبة أمام عيني المسافر أرض مستوية جرداء، كثبان رملية، ساحات مقفرة من كل شيء، من كل شيء! حتى من الحياة. وتألف عيناه هذا المشهد الجامد المكور، تألفه أياماً وأياماً. وفجأة ينبثق أمامه وسط تلك الصحراء الخالية مشهد يضج بالحياة، واحة خضراء، جنينة جميلة تمتزج فيها الأصوات بعذوبة، حفيف أوراق الأشجار المثقلة بالثمار، تغريد الطيور وهي تثب بفرح من شجرة الى اخرى، خرير سواقي المياه الصغيرة. لأول وهلة، هل تصدق ذلك؟ هذا هو حال المجتمع الاسلامي الذي أنشأه الرسول في يثرب المدينة المنورة، هو حال المدينة وهي تطل مزهوة، واحة خضراء في قلب صحراء الجاهلية.
أتأثر بقبول دعوتي ياأخاه؟ قال ذلك مسلم أنصاري وهو يجلس الى جوار اخيه المهاجر بعد أن فرغ من الصلاة.
ردّ المهاجر وبسمة عريضة تضيء وجهه: يسعدني أن ألبي دعوتك ياأخي.
وتمتد المائدة امام الأخ الضيف وينال حاجته من الطعام ويحين وقت الانصراف، يهم بتوديع صاحبه غير أن ذلك يسبقه فيطلب الاذن لنفسه ثم يقول: الدار بما فيها لك ياأخاه. تفاجئ الرجل ولكن: ألست أخي؟ ألم يؤاخي بيني وبينك رسول الله صلى الله عليه وآله؟
أجل ولكن؟
اذن هذا بعض حقك عليّ !
ولكني؟
ولكني أخوك!
ماج صدره بالغبطة والسرور وأخذ قلبه يقفز يثب في نشوة روحية لاحد لها.
أجل هذا هو المجتمع الذي ينشد، هذه هي الحياة التي يروم ويطمح اليها، هذا هو الأمل الذي كان يحلم به طويلاً، هل هو ذا يعيش واقعاً باسماً مترعاً بالأخاء والصلاة. وبلغ المسجد، سارع يجلس الى صاحبه بعد أن بحثت عنه عيناه هنا وهناك. وشرع يبث أخاه رفيق الهجرة حديث أخيه الأنصاري، ولما لم يجد أثراً للدهشة على ملامحه تعجب واراد أن يفوه بشيء، بيد أن صاحبه إبتسم وقال: هذا ما حصل لي ايضاً كما حصل لكثير من اخواننا المهاجرين !!

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة