البث المباشر

الفجر الصادق ۱

الإثنين 7 أكتوبر 2019 - 09:43 بتوقيت طهران

اذاعة طهران – قصص الصالحين : الحلقة : 5

 

اذن فقد فاز أبو عمرو بحصة الأسد. قال الرجل ذاك لمحدثه بصوت مرتفع محاولاً إسماع رجل آخر أقبل عليهما ينقل خطواته بزهو وخيلة. هتف صاحبه هو الآخر قائلاً: وإنه آل لذلك يا أبا الوليد
أنتما مساءاً ! ألقى الرجل التحية ثم أردفها بإبتسامة.
ردّ أبو الوليد: طاب مساءك يا أبا الغنائم، ههه ههه نعم الصيد الضبا!
ثم إنصرف الى صاحبه يقول: الرجال تصطاد الضباع، تخطفها من بيوتها، من مرادع قومها ونحن هنا نطارد الأرانب ولا نكاد نعود بطائل.
أطلق صاحبه ضحكة قصيرة ثم إتخذ سمة الجد وهو يخاطب الرجل الذي لم يزل واقفاً: أهلاً بك يا أبا عمرو! ها كيف تجري الأمور؟
ليس على مايرام ياعمارة! صاح الرجل بذاك وهو ينضم الى المجلس.
أجاب الرجلان بصوت واحد: وكيف؟
أي ههه، ليس هي من النوع الذي تظنان. لقد حاولت معها وحاولت وحاولت ولكن من غير جدوى.
ضحك أبو الوليد وقال: تتمنع عليك؟ إحمل عليها غلمانك.
لاتقول يارجل، ردّ أبو عمرو بشيء من الغضب.
قال أبو الوليد ضاحكاً: أعني دونك الصوت.
إسترخى قليلاً ثم هزّ رأسه رافضاً يقول: لا لا، لاتقل هذا ياأبا الوليد بحقي عليك.
إرتفعا حاجبا الرجل دهشة وهو يجيب: أحب الرجل وهبل.
ثم إلتفت الى عمارة وأضاف: هه لاغزا صاحبك بعد اليوم.
هزّ عمارة رأسه نفياً وقال: لا لا ، إنه يهزل من غير شك!! أيعشق أحد سبيته؟
ضاق أبو عمرو بالحديث وقال: دعونا الآن من هذا الأمر وأردف موجهاً خطابه لأبي الوليد: ولكنك لم تسألني حديث البارحة؟ ترى هل أطلعك عمارة على كل شيء؟
لقد سمعت كل شيء ولكني لاأمل سماع المزيد.
عدّل أبو عمرو من هيئته وقال وهو يتيه زهوه: لقد كنت معنا عندما عزونا بني الأشهل.
هزّ أبو الوليد رأسه وواصل: وتذكر كم كان مباغتاً هجومنا ذاك.
هزّ الرجل رأسه مرة اخرى.
ضحك أبو عمرو بصوت عال وقال: هههههه إن إستطاع بنو الأشهل النجاة ببعض أسلابهم فإنا لم نترك لبني النمير هذه المرة شيئاً، هههههه. لقد حمل المال والطعام وسقنا السبي بما عليهن من الحلي وأقتنا الضلف والخف والحافر.
غمز أبو الوليد بعينه وهو يقول: لو لاتكن إلا ضبية بني نمير وحدها لكنا ظافرين!
ضحك الثلاثة وهمّ عمارة أن يقول شيئاً إلا أنه توقف وراح يتطلع بإهتمام صوب الطريق. كان هناك فتى يافع يشتد في سيره وهو يلتفت هنا وهناك وعندما لاح له الرجال الثلاثة أخذ يجري بإتجاههم. تطلع أبو عمرو هو الآخر الى القادم وقال: أظنه من غلمانك ياعمارة؟
أجل، ردّ عمارة بشيء من القلق ثم نادى: خير، ماذا وراءك يارباح؟
توقف الفتى عن الجري وصرخ: لدينا ضيف ياسيدي.
ضيف؟ صاح عمارة بهذه الكلمة ثم نهض واقفاً وعلى عجل ودع صاحبيه ثم تقدم الى جواده وإمتطاه.
قال الفتى ولازال يلهث وهو يهرول خلف الجواد: ليس هناك من ضيف ياسيدي. إن سيدتي ضربها الطلق.
تقول الطلق؟
أجل ياسيدي! لقد مضى وقت طويل وأنا أبحث عنك.
كيف تقول؟ قال ذاك ثم نكز جواده كالسهم تاركاً الفتى يعدو خلفه يكاد يختنق من شدة اللهث.
سحاب قاحلة ممتدة لانهاية لها، أكواخ قليلة اوخيام صغيرة متناثرة هنا وهناك، إبل ترعى نباتات شوكية جافة، وجوه سمراء طبعتها المعاناة وشضف العيش بطابع خاص. غزوات وغارات، قتل وسبي، نهب وسلب، احقاد وضغائن وثارات، خوف وقلق، حياة لاتعرف الاستقرار والدعة. هذه هي الجزيرة العربية قبل أن يشرق في جنباتها نور الاسلام وأن يبدد ظلماتها ويسحق جاهليتها المقيتة ويلم ذاك الشتات المتناثر. ذلك الخليط من العشائر المتنازعة لتخلق منها امة قوية عزيزة متحررة رائدة تحمل بيدها مشعل الهداية للعالمين. ولكن الاسلام لم يزل بشارة تصغي اليها قلوب المستضعفين والمسحوقين لتهفو لها وتخفق أملاً بالحياة الكريمة والمستقبل الوضاء. اجل بشارة وأمل وتطلع لاغير. فما فتأت الجاهلية الرعناء تلقي بكلكلها الثقيل على الجزيرة العربية فتخنق الحياة وتدوس الكرامات وتسحق الحرمات. أي حياة تلك التي يحياها الانسان الجاهلي؟ إنها حياة في غابة تسكنها الوحوش المفترسة فلا يدري في أي لحظة يقع لقمة سائغة في فم وحش ضاري جائع، أي شعور متلبد وأي إحساس جامد وأي قلب ميت متحجر يحمله ذلك الانسان الجاهلي عندما يقدم على دس وليدته الصغيرة البريئة في التراب او يغير على أهله وجاره فينهبه ماله ويسبي عياله وينزل به الفواجع والنكبات بل وأي عقل ممتهن ذلك الذي يعكف على صنع ربه بيده تمثالاً من التمر يخر له ساجداً وما إن يفرغ من مناجاته الحارة حتى يجلس يلتهمه بنفس الحرارة. عقل مغلول بآلاف الخرافات والتقاليد البالية تثقله وترهقه بأعمال سخيفة فارغة لاغنى فيها. فهذا يقلد نهيق الحمار كتطعيم او كضمان لسلامته من المرض وذاك يأتي بأعمال غريبة لاتفسير لها ليطرد العفاريت التي حلت جسمه فجعلته طريح الفراش فريسة الوباء. اجل هكذا هو العقل الجاهلي يدور ويدور في هذه الدوامة الفارغة كما تدور دواليب الطواحين الهوائية أنى هبت الريح، ولكن الى متى يبقى الانسان أسير هذه الأوهام؟ متى يتحرر العقل؟ يحطم اغلاله وقيوده؟ ينفض عن نفسه كل هذا الركام الجاهلي؟ متى تحين ساعة الخلاص؟ ومن هو المخلص؟ من هو المنقذ الذي ينتشل الناس من هذه الهوة السحيقة ويرقى بهم الى مكانتهم السامية الرفيعة؟ من؟ من سيكون؟ هل هو الرجل الذي يبشر به أحبار اليهود والنصارى ويقولون إنه نبي أضلنا زمانه؟ ولكن متى متى؟
لف الحزن والكآبة النسوة ورحن يجلن في رحبة الدار وعيونهن تفيض بالدموع وبين الحين والآخر كن يتطلعن بأسى الى امرأة إنطوت على نفسها في احدى زوايا البيت وقد إصفر لونها وشاب وجهها بما يشبه علائم المرض. حاولت احدى النساء تبديد حالة الوجوم فقالت: لم يرد رباح بعد أصابته داهية الدواهي، هذا حال العبيد هذه الأيام لايجيدون غير التسكع.
ردت عليها الأخرى متظاهرة بالغضب. وفجاة إنطلق صوت بكاء طفل صغير، إنقطع حديث النسوة، أعادهن صوت الباكي الى حقيقة المأساة الماثلة امامهن.
فتهادين الى المهد الصغير ثم حملن وترددن ليقدمنه الى أمه. كانت المرأة مطرقة وكأنها غائبة في عالم بعيد، بعيد تماماً. وعندما نادينها رفعت عيناه، تسمرت على الصغير لبرهة ثم إنسكبت دموعها بصمت.
وضع الصغير في حضن أمه، سرعان ما تغير حال المرأة فإضطربت في مكانها ثم إبتسمت وضمته الى صدرها وراحت تتمتم بكلمات غير مفهومة.
إقترب وضح حوافر جواد غير مغير ففزعن النسوة وتعلقت عيونهن بالباب وبعد لحظات أطل عمارة. تقدم بخطوات سريعة وهتف: ها أذكر ام أنثى؟ وعندما لم يجبه أحد صرخ: ما لكن تقفن صامتات كالأشباح؟ هل يعني هذا أن المولود بنت؟
تقدمت اليه احداهن وقالت بوقار: أجل ياولدي إنها بنت! ولكنك لو نظرت اليها لوجدتها وردة جميلة متفتحة في أكمامها. اقسم أن الحي لم ير وليدة مثلها !!
عربدت دماء الجاهلية في عروق عمارة وتوهجت عيناه بالغضب وصرخ: بنت؟ لايريد عمارة البنات. وأردف صارخاً: كلا كلا، لن يكون هذا أبداً. قال ذلك ثم هجم على زوجته وإستلّ منها الطفلة بقوة.
وثبت الأم فزعة مرعوبة وتعلقت بأطراف ثوبه وراحت تتضرع بإنكسار وألم لاحد لهما: دعها لي ياعمارة، أتوسل اليك ياعمارة !! حاولت الإمساك بوليدتها إلا أنها أبعدت بكل غلظة وجفاء.
طفق الرجل ينادي على غلمانه يدفع لهم الطفلة البائسة لينيط بهم تلك المهمة القذرة المروعة، مهمة وأدها وإزهاق روحها البيضاء الطاهرة.
أجل ياأخاه إن ديننا الحنيف يأبى كل هذه المواضعات الجاهلية. الناس عنده سواء كأسنان المشط. رسولنا صلى الله عليه وآله يقول: كلكم لآدم وآدم من تراب. ديننا ينكر أن يكون هناك فضل لأبيض على أسود، غني على فقير، سيد على مسيود إلا بأخذه بقيم الدين وانتقاءه في مدارج الايمان التقوى.
أجل ياأخاه إن الله تبارك وتعالى يريد لعباده أن يعيشوا بكرامة وسلام، لايعتدي احد على احد ولايغتصب أحد حق احد، إن الله يريد... قطع الرجل كلامه. كانت هناك أصوات تقترب منهم وعندما إلتفتوا رأوا مجموعة من الرجال يجدون في إثرهم تملكهم الإرتباك. أيكون أمرهم قد أفتضح؟ إنهم لم يأتوا بما يثير ريبة وشكوك الآخرين، ولكن ماذا لو كان ذاك؟ يعني أمر دعوتهم لم يعد سراً؟ وأنها ستتعرض لبطش قريش وارهابها. فجأة إلتفت الرجل المتحدث الى صاحبه وقال: أتعاهدني ياأخي أنك لم تذكر الرسول او إخوانك المؤمنين ولو عذبت؟
أعاهدك الله ياأخي على ذلك!! ذلك المرجو مني.
وفيما كان الرجال يقتربون أكثر فأكثر إلتفت الرجل الى صاحبه وقال: أعرفتهم؟
يبدو لي أنهم غلمان عمارة!!
هزّ الرجل رأسه وقال: أحسب أنهم في غير شأننا !
أجل هذا ماأراه وأردف: ولكن ماهذا الشيء الذي يحملون؟
أحد الرجلان النظر ثم هتف أحدهما: إنه طفل!!
طفل؟ أجل، يا إلهي أرجو أن لاتكون جريمة جديدة!!
تقدم قليلاً ثم نادى: ما الذي تحملون يارجال؟
أحس غلمان عمارة بغرابة هذا الخطاب، إنهم لم يتعودوا مثل هذه اللهجة التي تفيض احتراماً.
فتوقفوا وخطى أحدهم خطوات الى الأمام وقال: لقد أمرنا سيدنا أن ندفن هذه المولودة!
أطرق الرجل مفكراً ثم رفع رأسه وقال: هل لكم أن تهبوا حياتها لي؟
ردّ الغلام وقد تملكه شيء من الخوف: وماذا نقول لسيدنا؟
اذا كان سيدكم يبتغي الخلاص منها فقد خلصناه!
تراجع الغلام وهو يقول: إنا نخاف سيدنا، ثم إنضم الى أصحابه وساروا.
مكث الرجل قليلاً ينظر اليهم ثم هتف: إسمعوا ما أقول ألكم بدنانير أمنحها لكم على أن تستجيبوا لرغبتي؟
توقف الغلمان وراحوا يتبادلون النظرات!!

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة