خلاصة حلقة الأسبوع الماضي
إستهللنا الحلقة السابقة بمشهد احد جواسيس البلاط العباسي وهو يقدم تقريره للخليفة هارون الرشيد عن المهمة الخاصة التي إبتعثه فيها على رأس مجموعة تجسسية ويبدو أن التقرير ذاك كشف عن خيبة أمل حقيقية للخليفة تجاه واحدة من خططه الأساسية لضرب المعارضة المتمثلة آنذاك بإمامة البيت النبوي وقواعدها الشعبية العريضة. ويحدثنا الراوي في مقطع آخر عن جانب من الأساليب التي إتبعها زعماء الدولة العباسية لنشر دعوتهم وإنجاح مشروعهم السياسي مستغلين الجمهور الموالي لآل الرسول ذلك من خلال الشعارات التي رفعوها الى الرضا من آل محمد الثأر لدم الحسين وما الى ذلك. وما إن تتوج الكفاح العباسي من اجل السلطة بنيلها حتى احسوا أن هذا الإنتصار إنتصار ناقص مهزوز مالم يتم لهم فرض هيمنتهم الكاملة على كل معارضيهم وتبدأ عملية الملاحقة العباسية للكثير من رجالات البيت العلوي مع تسلم المنصور الدوانيقي منصب الخلافة. ثم تشتد وتأخذ لوناً دموياً بعد تولي الهادي مقاليد الأمور وبجلوس هارون الرشيد على كرسي الخلافة تدخل القضية مرحلة جديدة فقد راح يخطط لضرب إمامة البيت النبوي في الصميم فرسم خطة جهنمية تقوم على نسف الأساس الفكري الذي تقوم عليه خلافة آل البيت ويبدأ العمل ببث فرق تجسسية أوكل اليها مهمة إشاعة مفهوم محدد مفاده أن موسى بن جعفر الكاظم هو المهدي الموعود المبشر به على لسان النبي صلى الله عليه وآله من أنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما تملأ ظلماً وجوراً. وعندما تأخذ هذه الفكرة طريقها الى الأذهان تأتي الصدمة القاسية بتصفية الامام لتهز كل الاعتقادات والقناعات الأخرى فتتململ العقول ريبة وتشك وتضطرب النفوس والقواعد الشعبية الموالية لآل البيت فريسة التمزق والضيع ومن ثم الذوبان. هذه خطة الخليفة ولكننا ألممنا بالنتيجة التي آلت اليها فقد أنبئتنا عينا الجاسوس اللتان سلتهما الخوف والقلق، أنبئتنا بكل شيء قبل أن نرى الخليفة ثائراً هائجاً.
ثم ينتقل بنا الراوي الى احد السجون العباسية المظلمة في بغداد حيث أودع موسى بن جعفر وما أن نخطو إياه هابطين درجات احدى الطوامير المظلمة المرعبة حتى تصافح آذاننا كلمات هادئة تثير السكينة وتشيع الأمن والسلام وتبدد الخوف والظلام المطبقين على السجن، إنها كلمات حارة مخلصة، كلمات إبتهال وبراعة وننتبه الى وجود وزير الخليفة الذي بدا أنه يجمع شتات شجاعته ليقترب من رجل اعزل مثقل بالحديد مفترشاً حصير صغيرة يبدو أنه فرغ للتو من صلاته وعلى لسانه بقية دعاء. ألقى الوزير تحية مضطربة وقال: هه هه لقد أرسلني الخليفة اليك وأمرني أن أطلق عنك الحديد وأن أبلغك سلامه كما حملني وصية اليك ياسيدي، إنه يقول، يقول لك إبن عمك قد سبق مني فيك أني لاأخليك حتى تقر لي بالاساءة وتسألني العفو عما سلف منك وليس عليك في إقرارك عار ولافي مسئلتك إياي منقصة. وكانت كلمة الرفض واضحة قوية لدرجة لم تترك امام الرسول إلا فرصة قصيرة لم فيها اطراف ثيابه وإنسحب على عجل.
وتحبط الخطة الجديدة التي لم تكن تستهدف غير إفراغ زعامة المعارضة من تأثيرها المعنوي وسلطتها الروحية على أتباعها بعد أن يشم هؤلاء الأتباع رائحة غريبة يتوهمون انها رائحة مساومة فيشعرون بالإحباط وفقدان الثقة بقيادتهم وربما قالوا لقد أوهن زعامتنا الحديد وفت في عضدها وصلابتها السجن وقادها لأن تعترف على نفسها بالتقصير والندم وتلتمس رحمة وغفران الخليفة ولكن هذه الأمنية التي راودت احلام الخليفة طويلاً تخبو كسابقاتها. فماذا بقي له أن يفعل؟
القسم الثاني
ما معنى هذا؟ ما معنى هذا؟
ألست الخليفة؟ ما الذي يجري؟ لاأدري ماذا أفعل؟
هه ما معنى أن أأمر عيسى بن أبي جعفر عمي وعاملي على البصرة في امر هذا الرجل فيكتب لي أن يأمر أمير المؤمنين أن يعفيني من أمره!
أدفعه الى حاجبي الفضل بن الربيع لينفذ فيه ارادتي، لايجيبني! أنه لايستطيع ذلك!
اندب الفضل بن يحيى إبن الرجل الذي إستخلصته لنفسي وجعلته وزيري وثقتي وصاحب أمري، أندبه لهذه المهمة فيتأبى عليّ!
كان الأعوان والزبانية الذين توافدوا على قصر الخليفة بدعوة منه نهباً للخوف والفزع أن لايقعوا ضحية غضبه، راح كل منهم يفكر في نفسه، ترى هل صدر منه ما يوجب غضب الخليفة؟ ولكن اذا كان إنزال العقاب على الظنة والتهمة فما عسى أن يغني مثل هذا السؤال؟ إن الأمر لايعوزه إلا كلمة قصيرة يهمس بها عين الخليفة لأذنه فينتهي الانسان بلمحة بصر. وقطع عليهم الخليفة سلسلة أفكارهم وهو يصرخ: أيها الناس إن الفضل بن يحيى قد عصاني وخالف طاعتي ورأيت أن إلعنوه!
فتعالت الأصوات باللعن ورددت جنبات القصر أصداءها. أما الخليفة بمواصلة حديثه غير أنه وقع خطوات مغتلسة مفاجئة. إلتفت خلفه بإرتباك، إنتزعت حدقتا الخليفة وقال ولم تزايل رنة صوته الاضطراب بعد: ما الذي جاء بك يابن خالد؟ إقترب الرجل اكثر وقال بصوت منكسر خافت: يا امير المؤمنين إن الفضل إبني حدث وأنا أكفيك ما تريد!!
تبدلت ملامح الخليفة وشاع السرور في وجهه. تابع الرجل يقول: ياأمير المؤمنين لقد غضبت على الفضل بلعنك إياه فشففه بإزالة ذلك.
إبتسم الخليفة وأقبل بوجهه على الجمع المحتشد وقال: إن الفضل قد عصاني في شيء فلعنته وقد تاب وأناب الى طاعته فتولوه..
هدرت الأصوات: نحن اولياء من يوالي امير المؤمنين وأعداء من يعاديه.
مرت موجة الأصوات أمام أسماع الخليفة قوية مدوية فشعر أنها تحمله وترقى به الطريق بعيداً بعيداً فيه نشوة لاحد لها فضحك وضحك وأغرق في الضحك والترنح.
وعندما إنتبه الى نفسه وجد أن كرسيه يهتز من تحته هو الآخر!!!
لم يكن الرجل يجهل جسامة المهمة التي تحملها بل سعى بقدميه لتحملها ولذلك فقد أخذ للأمر اهبته وإستعد لمواجهة الطوارئ. والذي أثلج صدره أن الخليفة عمل بنصيحته ودون تردد فغادر بغداد الى الرقة ليكون بمنئى عن الأحداث والمهم الآن هو إستعراض قوة السلطة وإظهار سطوتها فبغير ذلك لايستطيع العمل بحريته كيفما يشاء او تشاء خطته. وردد مع نفسه: أجل لابد من الارهاب، لابد من تخويف الناس، ذلك وحده الذي يوفر المناخ المناسب للعمل.
كانت هذه أفكار راودت ذهن يحيى بن خالد وهو في طريقه الى العاصمة العباسية ولكن بغداد كانت تخبأ له مفاجأة لم تكن بالحسبان.
دخل بن خالد بغداد فهاج الناس وساد التوتر ولاحت نذر الانفجار، أحس الرجل بالحاجة الى عمل عاجل، حملة دعائية سريعة تصرف الأنظار عن الوضع الراهن وتحوله الى جهة اخرى تماماً فوقف امام جموع الناس خطيباً وهو يتحدث عن الوضع المعاشي للطبقات المحرومة والظلم الذي لحقها نتيجة سوء ادارة المسؤولين وقال: إنما قدمت لتعديل السواد والنظر في أمر العمال.
وهكذا اخمد هذا المسعى الشيطاني لهيب الثورة الذي كاد أن يشب!
أجل إنطلت الخدعة على الجماهير التي لم تعي بعد ألاعيب الحكم والسياسة وإنصرف كل الى شأنه ثقة بما قيل او يقال ولم يكن يحسب أن يكون طالعه بعد أيام ذلك المشهد الجلل، الخطب المروع ماثلاً على الجسر.
كانت شرطة الخليفة تقف على أهبة الاستعداد وهي مدججة بالسلاح وقد أحاطت بجثمان مسجى.
إنطلق صوت أجش ينبأ أن صاحبه عريق في صناعة الجريمة والرعب، منادياً: هذا موسى بن جعفر ههه ههه الذي تدعي الرافضة أنه لايموت !!
أجل أنه السهم الأخير الذي بقي في جعبة امير المؤمنين هارون. الأمنية التي وأدها القدر. مضت دقائق قليلة كان هناك شيء ما يسري في العروق فتتشنج وتنط من تحت الجلود راعدة غضباء. وسرت همهمة متوعدة منذرة أحس الجلاوزة أن الجو يختنق من حولهم، ما هذه الأصوات التي بدأت تتعالى الى نذر بركان مدمر أوشك أن ينفجر وإستولى عليهم الذهول، ماعسى يصنعون بعيداً عن الناس. ومع حركة الجماهير لإستلام النعش تلقى فريق من الرجال إحتل زاوية بعيدة إشارة خاصة مريبة فتحرك على الفور وهجم على الشرطة غير أنها تنازلت له عن النعش دون أية مقاومة. وفجأة ظهر احد رجالات البلاط متقدماً فريق المشيعين وعلى وجهه علامات حزن ثبتها بإتقان. لم تنتظر الجماهير التي أدركت كل شيء فتخطفت النعش وراحت تطوف به المدينة وطوفان من المشاعر المخلصة الحراء يلفها بالحزن واللوعة وإستمرت تطوف وتطوف وكأنها تخط بمسيرها ذاك أفقاً يترامى الى الغيب البعيد، أفقاً يعلو على هامات النهود والشموخ والمجد.