خلع الرجل ملابسه التنكرية ووضعها جانباً ثم ركن جانباً من ذلك البهو الواسع وعيناه تتراقص في محجريها نامة عن قدر كبير من الخبث والمكر. كان خائفاً قلقاً لايكاد يستقر به مجلس وكأنه يفترش أرضاً حاصبة لوحتها الهاجرة طويلاً ولم يحس وقعاً للقدمين اللتين كان صاحبهما ينقلهما بغطرسة ورضى على البساط المخملي الذي غطى بلاط البهو الكبير.
فجأة وقف على قدميه وهتف بإرتباك: امير المؤمنين وأول بإتجاه الرجل الذي وقف بإزاءه متشامخاً وإنكب على رجليه ويديه يقبلهما.
أطلق الخليفة ضحكة قصيرة مفتعلة وقال برنة جافة متعجرفة: مممه ماذا وراءك؟
كل خير يامولاي! كل خير
أومأ اليه برأسه أن تابع قبل أن يتقدم الى العرش ويعتليه
إنطلق الرجل الذي أحنى قامته كأنه لو يريد الركوع، إنطلق يتحدث ولسانه يسيل قلقاً وخسة قائلاً: لقد سمعنا بأمر مولاي وذهبنا حيث أمر ونرجو أن نكون قد حققنا غاية امير المؤمنين.
صعد الخليفة نظره فيه وقال: أراك تقتصد في الكلام يارجل، أخبرني ما فعلتموه.
إبتلع الرجل ريقه وقال: لقد شرعنا بعملنا يامولاي من حيث أمرت فقصدنا مجالس القوم وخالطناهم ولم نكن ننتظر أن تئاتينا الفرصة بل كنا نبحث عنها ونقصدها، وما رأينا جمعاً إلا وإندسسنا فيه وما رأينا احداً منهم إلا تبعناه وكنا ألصق به من ظله، فما مضت إلا أياماً قلائل حتى وجدنا بعض الآذان الصاغية والكثيرين يامولاي كانوا ينظرون الينا نظرة الشك والريبة حتى راحوا يسعون بشحن الظنون من حولنا بيد أن عزائمنا لم تخر او تهن ولازمنا امرنا دون كلل او ملل.
قاطعه الخليفة قائلاً: وماذا جرى بعد ذلك؟
إرتبك الرجل غير أنه إبتسم إبتسامة باهتة يداري بها خوفه وأجاب: إننا لم نصدر في كل مافعلناه إلا عما امرتنا به يامولاي، أعني أننا لم نتخطى حدود مهمتنا. إنني أستطيع أن أجزم أننا أفلحنا في أن نجد من يقول بقولنا وأن نكمل المهمة التي بدأناها من سنين وسيجد امير المؤمنين لو أنه بث عيونه وأرصاده أن هناك من يعتقد أن موسى بن جعفر هو المهدي الموعود!!
توقف الرجل عن الحديث ورفع رأسه بحذر وتطلع الى الخليفة ثم أطرق وقال: ولكننا يامولاي لم نفلح في حملهم على الاعتقاد أنه قد غاب وإختفى عن الأنظار، كان الجميع يعلم أنه رهين السجن والأكثر من ذلك أن الكثير يعلمون من اخباره واحواله داخل السجن.
لم يطق الخليفة سماع المزيد من هذا الحديث الذي عرف فيه خيبة ما بعدها خيبة فذهب صارخاً: كفى كفى أخرج الآن ولاتغادر القصر حتى أستدعيك.
وقف الرجل وقدماه ترتجفان واخذ يتراجع الى الخلف وهو يقول: سمعاً وطاعة لأمير المؤمنين، سمعاً وطاعة يامولاي.
إشتدت حالة الانفعال والغضب في الخليفة ومن خلال خطواته السريعة غير المتوازنة التي راح يترك بها المكان ونظراته الملتهبة بدا وكأن آلاف الأفكار تتقاتل في رأسه بضراوة ودون هوادة. وفجأة رفع يديه في الهواء واهوى بهما على ام رأسه وصاح: لقد إنتهى كل شيء. ثم بنبرة هاجسة مشحونة بالغيظ: لقد آلت خطتي بالفشل، الفشل الذريع!! جرجر أقدامه نحو العرش وتهالت عليه بإنهيال تام.
كان زعماء الدعوة العباسية نجحوا أيما نجاح في تعبئة التيار الشعبي الموالي لآل البيت النبوي وتجنيده ضد الأمويين وكان الشعار الذي يتقدم هذه الدعوة هو للرضا من آل محمد. وهكذا عندما آلت الأمور لبني العباس وتمكنوا من الإمساك بقوة بزمام الأمور شعروا أنهم أمام منافس قوي لايمكن إغفال أمره او تخطيه بحال، ومالم ينجحوا بقهره والقضاء عليه فإن إنتصارهم يبقى مهزوزاً وناقصاً. ولهذا بدأت الحرب العباسية ضد أئمة هذا البيت تأخذ شكلها العلني والسافر مع عهد المنصور الدوانيقي وعندما آل الأمر الى هارون الرشيد قرر وضع حد نهائي لهذه المخاوف فرسم خطة شيطانية بعيدة المدى ترمي الى زعامة الخط المعارض في الصميم وإنهاء إمامة البيت النبوي وبدأ التنفيذ بدس العشرات من العناصر في الوسط الشيعي بعد أن ألبسها مسوح الدين والتي راحت تشيع فكرة خطيرة مثلها أن موسى بن جعفر هو المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وآله وأنه سيقوم بالحق ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً. ثم عمد الى تدبير عملية إعتقاله ليلاً ساعياً من خلال الأجواء التي احاط بها العملية الى إثارة أكبر قدر من الغموض والإبهام حول غياب الكاظم من بيته بعد منتصف الليل.
اجل ألقي بوريث البيت النبوي في غياهب السجون فيما واصل جواسيس الخليفة بث تلك الفكرة وحشد الأنصار لها وهكذا مهد النشاط الدعائي والتضليلي لتقبل فكرة غيبة الكاظم لدى بعض القطاعات الشيعية التي يعوزها الوعي وتفتقر الى الثقافة الدينية الكافية. ذلك أنها تعرف أن المهدي سيواجه ظروفاً سياسية خطيرة وملاحقة من قبل السلطات الحاكمة تضطره الى التخفي والغيبة. ولكن هل كل ذلك ما تبغيه خطة الخليفة؟ وهل سينفعه هذا النجاح المحدود الذي حددته خطته. أجل لقد أدرك الخليفة بعد مرور سنين عدة فشل خطته فطفق يفكر برسم خطة جديدة.
امتد امامه عالم واسع مترامي الأطراف مليء بالأسرار والبهجة الروحية العميقة العميقة محاطة بهالات النور، أحاسيس جميلة لذيذة وشفافة كأنها تطير بحرية منطلقة في سماء عريضة عريضة. ولم يكن سهلاً سبر أغوار تلك الاشراقة التي تتماوج على هذا الوجه المفعم رضى وحبوراً. بيد انك تحس أن عالماً زاخراً بألوان الحياة بشتى الصور المبهجة، بمختلف المشاهد النضرة يتدفق امام ناظري الرجل ومع اليدين اللتين إرتفعتا في دعوة ضالعة إنسكبت بخشوع ووله كلمات حارة مزقت الظلام والوحشة في ذلك السجن الرهيب "الهم إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك ولقد فعلت فلك الحمد".
وفجأة يدفع الباب يدخل اثنان من حرس السجن يتقدمهم رجل كهل يرتدي بزة فخمة يخطو بضع خطوات ويتوقف، تأخذه رهبة، يحس كما وأنه يجازف بولوج عالم غيبي مليء بالأسحار، شيء لاعهد له به، ينتهك شيئاً مقدساً. أجل إنتهك حرمة هذه الخلوة الملكوتية المقدسة.
تراود الرجال الثلاثة فكرة واحدة، هل يتراجعوا؟ تبادلوا النظرات للحظة غير أنهم اطرقوا الى الأرض. طرقت على وجه الرجل المتقدم علائم الضيق والألم وبدا وكأن موجة من الأسف والندم قد إستبدت به ودفعته لأن يقول مع نفسه: ما الذي حملني على تقبل هذه المهمة الثقيلة؟ ألم يجد هارون من يكلفه غيري؟
صرصرت السلاسل الحديدية في يدي السجين ورجليه ثم سكنت وكما لو نزلت على الرجل النجدة من حيث لايعلم او هكذا شعر وهو يرى السجين يفرغ من صلاته فوثب نحوه وقال: السلام عليك يابن رسول الله
وعليكم السلام
تملك الرجل الارتباك والحيرة، ماذا يقول؟ لقد دفع الى موقع لايحسد عليه. حاول جمع شتات شجاعته وقال: لقد أرسلني إبن عمك وأمرني أن أطلق عنك الحديد وأن أبلغك سلامه ولقد حملني وصية اليك ياسيدي، إنه يقول، يقول لك إبن عمك: إنه قد سبق مني فيك أني لااخليك حتى تقر لي بالاساءة وتسألني العفو عما سلف منك وليس عليك في إقرارك عار ولامسئلتك إياي منقصة. وسكت الرجل، وقف متأدباً ماداً عنقه لتلقي الجواب وسرعان ما صافحت اذنيه كلمات هادئة لكنها قوية صلبة تثير الخوف والرهبة: أبلغه عني، يقول لك موسى بن حعفر ستعلم غداً اذا جافيتك بين يدي الله من الظالم والمعتدي على صاحبه.
سرت الرعدة في اوصال الرجل وهو يستمع الى هذه الكلمات فلم يمتلك إلا أن جرجر أقدامه وإنسحي رويداً رويداً وكلمات توديع مضطربة تتعثر على لسانه.
اجل لقد كانت النتيجة التي حملها اليه وزيره عن هذا اللقاء شديدة على الخليفة فهاهو مسعاه الجديد يكلل بالاحباط وهاهي خططه تصطدم الواحدة تلو الأخرى بصلابة ووعي وريث البيت النبوي. وعلى غير وعي منه إختطف رسالة ملقاة على رف قريب نظر فيها وكأنه يراها لأول مرة ثم اطلق ضحكة هستيرية هي أقرب الى صراخ المصقوع منها الى الضحك وفجأة عدل عن الضحك ليزئر: لن ينقضي عني يوم من البلاء حتى ينقضي عنك يوم من الرخاء، حتى نفنى جميعاً الى يوم ليس فيه إنقضاء هنالك يخسر المبطلون.
إضطرمت النيران في نفسه إنه موسى بن جعفر مرة اخرى. صرخ وهو يلقي بالرسالة: يخوفني الموت، الموت، الموت !!!