البث المباشر

الثبات

الإثنين 7 أكتوبر 2019 - 09:04 بتوقيت طهران

اذاعة طهران – قصص الصالحين : الحلقة : 2

 

المدينة تعيش حركة دائبة غير عادية فالناس الذين يغادرونها جماعات وأفراد ومظاهر الزينة التي حفلت بها تشير الى أن مهرجاناً كبيراً ستشهده العاصمة النمرودية. وفي منئى عن الصخب ذاك وقف ابراهيم وحيداً والهم يعتصر قلبه ويطبق على روحه كالسحابة الثقيلة عندما تخنق بمرورها اشراقة الشمس. اجل كان ابراهيم مهموماً حزيناً، حزيناً لهذا الجهل المستشري، حزيناً أن يبقى الناس ضحية أضاليل نمرود الطاغية وأتباعه، ويتسائل: الى متى يبقى الناس في سفاهتهم وتفاهتهم؟ وحتى لو يمرون بحقيقة الكون الأزلية ولايلتفتون؟ هذه الحقيقة التي طبعت كل شيء، أضاءت كل شيء حتى أفعمت وجدان ابراهيم وعقله وأحاسيسه. الا يدركون حقاً أن عبادة الأصنام إمتهان لعقل الانسان وتفكيره وإزراء لكرامته وانسانيته. إنفلت من تأملاته هنيهة ليقول بصوت غاضب: ما العمل؟ إلا أنه عاد يفكر ويتأمل من جديد. كم مرة وقف ينصح هؤلاء القوم، حطموا هذه الأغلال التي ترصف بها عقولكم، حرروا أفكاركم من أسر هذه الأوهام البائسة. ولكن لاأحد يصغي، لاأحد. واذا كانت الكلمة عاجزة عن فعل شيء فما عساه أن يسمع. وتخلو المنازل من اهلها او تكاد وتصفو الطرقات من المارة عندها ينتفض ابراهيم يكر عائداً الى البيت ويخرج متسلحاً بفأس. وكمن يلقي نظرة على امر إعتزمه توقف قليلاً ثم تحرك بخطوات سريعة واثقة.
هناك في قلب المدينة كان بناء شامخ أغدقت واجهاته بالبناء والرسوم. كان لابد وأنت تمر بالمكان ذاك من أن تؤدي طقوس العبادة للآلهة. أجل لابد من دفع تلك الضريبة فهذا بيت الأصنام. ففي هذا البيت او هذا المعبد إصطفت الأحجار المنحوتة على هيئة انسان، فهذا صنم صغير إله صغير وذاك أكبر منه والثالث اكبر منهما، ورابع وخامس. وفي نهاية الصف وضع صنم كبير، كبير جداً، أنه كبير الآلهة. وعلى الأرض بموازاة هذا الحشد الغارق في الغيبوبة والذهول عند أقدام هذه الآلهة المتحجرة إمتدت الموائد وعليها ألوان القرابين فهي هدايا للآلهة. هكذا بدا المشهد لعيني ابراهيم النافذتين الغاضبتين، لوحة رسمتها يد انسان في ساعة من ساعات الهوس وغياب العقل فهل يمكن أن تجد فيها غير ما يبعث على السخرية والتندر؟
تقدم ابراهيم الى الامام وقال وهو يشير الى القرابين المرصوفة على الموائد: ألا تأكلون؟ وسكت كأن يريد أن يترك لها فرصة الكلام، ثم أردف: مالكم لاتنطقون؟
هزّ فأسه في وجوههم ولم يسمع كلمة إحتجاج واحدة فراغ عليهن ضرباً باليمين وهم مستكينون لايردون عن انفسهم ولايحركون ساكناً.
وماهي إلا لحظات قليلة حتى جعلهم جذاذاً إلا كبيرهم. حمل ابراهيم فأسه ليقلده الصنم الكبير ويستدير خارجاً بعد أن صيّر من بيت الآلهة مقبرة لها. خرج وهو يشعر بغبطة روحية لاحد لها، أن حطم الآلهة المصطنعة الميزفة، حطم أغلال العقل وقيوده لينطلق الفكر حراً طليقاً يتدبر آيات الكون ويتملى آفاقه.
إحتشدت الجموع حول ساحة القضاء في دائرة كبيرة وإختلطت الأصوات الهادرة وتعالت الأصوات وتقاد العيون بالشرر ونفرت العروق حتى اوشكت أن تتفصد، كلها تحكي عن سرة غضب عارمة عصفت بالجمع ذاك. وفي وسط الدائرة الكبيرة إنتظمت دائرة صغيرة بالرجال دلت أيديهم الغليظة أنهم من رجال نمرود.
إنطلق صوت أجش منكر قوي كغوار الثور يدعو الناس الى إلتزام الصمت. ألقى صاحب الصوت الذي إرتدى بذلة وتحلى بحلية خاصة وشت أنه من رجال القضاء، ألقى نظرة مخيفة على الشخص الذي وقف امامه بثبات يحسد عليه لأن نظرته سرعان ما إنقلبت عليه حسيرة. كان الشاب رغم رهبة الموقف يسدد للقاضي نظرات ثابتة لاتريم لدرجة أيقن معها رجل القضاء النمرودي أن نظراته المخيفة القاسية التي كثيراً ما جربها في محاكمة المتهمين لم يعد لها في حساب هذا الشاب من أثر. زمجر القاضي محاولاً تجنب نظرات ابراهيم: هل مكثت في المدينة عندما غادر الناس لحضور المهرجان؟
نعم! جاء الجواب بتلقائية تامة
أجل، تضرعت بالمرض لتبرر بقاءك وتأتي ما أتيت، أليس كذلك؟ تفوه القاضي بهذه العبارة وكأن نوبة غضب جديدة قد ركبته.
نبأ عن ابراهيم صوت هادئ رزين كما لو قال عن أي شيء تتحدث.
صرّ القاضي على أسنانه وصرخ: من فعل هذا؟ وأشار الى أكوام الأصنام المحطمة.
لم يعد عليه ابراهيم مباشرة مقراً أن يدمر غرور هذا القزم النمرودي ويحكم أعصابه تماماً. هادجه بنظرة باردة ثم أشار بفتور الى كبير الأصنام الذي أقيم هناك وقد تدلى الفأس من رقبته بإعتباره الشاهد الوحيد الناجي من الكارثة، أشار ابراهيم اليه وقال: فعله كبيرهم هذا!!!
رغم أن الكلمات التي تفوه بها ابراهيم لم تكن توحي بهذه الاستجابة إلا أن الحشد ذاك تلقاها كإيعاز عسكري وجهه ضابط لجنوده فطأطأ رأسه وسرت همهمة "إنكم انتم الظالمون" إلا أن القاضي تدخل محاولاً إنقاذ الموقف وراح يصرخ: ألا لديك بينة على ما تزعم؟
الجواب حاضر على لسان ابراهيم: إسألوهم إن كانوا ينطقون؟ مشيراً الى حطام الأصنام!
ولأول مرة يعترف بها القاضي بهزيمته. أشاح بوجهه وراح يداري بخزيه: لالقد علمت ما هؤلاء ينطقون!!
ردّ ابراهيم وهو يجيل نظرات ملئها الألم والاستنكار معاً في تلك الجموع المحتشدة حوله: أتعبدون من دون الله ما لاينفعكم شيئاً ولايضركم، أف لكم ولما تعبدون من دون الله، أفلا تعقلون؟
صدى كلمات ابراهيم القوية الواثقة تردد في النفوس نافذاً كالسكين فبهت القوم وراح ينظر بعضهم في وجه بعض.
ومن مكانه تلفت نمرود وقد حاصره الخوف من تطور الموقف فأشار الى كبير جلاوزته اشارة خاصة. تقدم ذاك وهو يصرخ: حرقوه وأنصروا آلهتكم!
وتابعه آخر هاتفاً: إبنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم!
رغم موجة التهديد والصخب فقد كان ابراهيم مغتبطاً شامخاً قلبه يزخر بالايمان وروحه ترفرف في الأعالي ونفسه تسبح في أشواق سرمدية.
وتحين منه إلتفاتة لأكوام الآلهة المحطمة ويبستم، تقفز الى خياله ذكرى الصبى حيث كان يربط الأصنام التي كان يصنعها عمه وكفيله بالحبل ويطوف بها بين الناس ليبيعها تحت تهديد عمه. كان يريد أن يقول لوراء ذلك: هاكم هذه آلهتكم مهينة عاجزة!!
وفيما شريط الذكريات يمر في ذهن ابراهيم ارتفع في مسافة غير بعيدة عنه جبل من الحطب، وتتوقد النيران وترتفع ألسنتها الى عنان السماء وتتعالى الصرخات من حولها ويجثم الهول على الموقف ويبقى ابراهيم واقفاً لاتهتز له قناة فإن كل ذلك لايعنيه وتغلي مراجل الغضب في رأس نمرود فها هو ابراهيم لايهاب النار التي أججها لغضبه، فما عساه فاعلاً؟
كان يأمل أن يرى في هذا الشاب المتمرد ذلة الانكسار، كان يطمع أن يسمع منه كلمة رجاء واحدة. آه آه، اذن ليعجل به الى النار عله يسمع صرخة ألم عندما تنشب النار انيابها في جسده، تنهشه وتلتهمه.
نهض نمرود هائجاً وقد تفجر مخزون الغضب الوثني في نفسه اللئيمة وصرخ بزبانيته: إقذفوه !!!
وتتسمر العيون على النقطة التي طلت ابراهيم وسط النيران المتأججة وساعة والعيون مشدودة والأنفاس مبهورة والنار تضطرم وتضطرم وفجأة تختلط الحقيقة بالخيال الواقع بالمستحيل، المعقول بغير المعقول، ماهذا أحقاً، يصعب التصديق ولكنه حق، أجل!! هذا ابراهيم قادم بلحمه، بدمه، بخطواته الثابتة، بنظراته الواثقة. كانت الجموع ترقب المشهد مبهورة ذاهلة ومن وراء الغيب إنطلق نداء إلهي ردد صداه الوجود: قلنا يانار كوني برداً وسلاماً على ابراهيم، أرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة