الجو البارد القارص وهطول المطر المستمر دفع الناس للإحتماء ببيوتهم طلباً لشيء من الدفء. ومنظر الطرق الخاوية من المارة يوحي أن المدينة أخذت هجعتها مبكراً هذه الليلة. وفي احد الأحياء الفقيرة لازال الحديث ينبعث من منزل إن صح إطلاق مثل هذا الاسم على تلك الخربة معلناً أن اهله لازالوا أيقاظاً وأن النوم لم يطرق جفونهم بعد. كثيرة هي الأحياء الفقيرة في المدينة المنورة في ذلك الزمان فقد شاء السلطان تأديب أهلها العصاة الذين أعلنوا التمرد على حكومته بعد أن رأوا فيها إغتصاباً للخلافة واعتبروا شخص الخليفة يزيد بن معاوية رجلاً فاسقاً لايصلح لإدارة أمور المسلمين وهكذا قيل لمدينة الرسول "جوعي". فعظمت مظاهر الفقر وإزداد عدد الفقراء ودعت الحاجة الكثير من الناس الى مد أيديهم والرضوخ الى لون من الإذلال لاعهد لهم به.
عاد الحديث من المنزل المنخرب يسمو اكثر من ذي قبل، ارتفع صوت ضعيف النبرات لكنه واضح: هه هه سألقي نظرة على الزقاق قبل أن آوي الى الفراش!
فطل رأس قد كساه الشيب وغارت عيناه وبرزت عظامه بشكل يبعث على الرثاء، حاول الرجل العجوز أن يمد قامته المنحنية وهو ينظر صوب بداية الزقاق إلا أنه عاد فتقهقر الى داخل البيت.
خاطبته زوجه التي تمددت بجسدها النحيل في زاوية من الغرفة: ألا أوسطت الباب؟
ردّ عليها بشيء من التهكم الممزوج بالمرارة: هههه وهل لدينا ما تخشين عليه السرقة!
لا ولكن ألا يحق لنا أن نستشعر ببعض الأمن ايضاً؟
أطمئني أطمئني تماماً!! فليس لدينا ما يغري أحد بنا، اللهم إلا يبغي سلبنا أرواحنا وليست هي مما يباع او يشترى. آه ليته فعل فقد عافت نفسي هذه الحياة الضنكة فالى متى ونحن نقاسي شضف العيش ومرارة الحياة.
أشاح بوجهها وهي تضيف: لاأدري لاأدري كيف مصيرنا لو لم يقيض لنا هذا الرجل المحسن؟
قال الرجل وكأنه رغب في تغيير وجهة الحديث: أتراه الليلة يطرق بابنا على عادته أم أن المطر والبرد الشديدين سيمنعانه؟
تثائبت المرأة وقالت: آه لاأظنه فاعله!!!
كان الزهري أحد علماء المدينة يسير الهوينا ومن وراءه غلامه عندما صادفه رجل مقبل يحمل متاعه على ظهره فحدق الزهري قليلاً في وجه الرجل مالبث بعدها أن خف اليه وأقبل يحيه بتواضع جم ثم قال وهو يشير الى المتاع الذي يحمله على ظهره: ما هذا ياسيدي؟
أريد سفراً أعد له زاداً أحمله الى موضع حريص!
قال الزهري وفي كلامه رنة رجاء: هذا غلامي يحمله عنك.
ابتسم الرجل مبدياً رغبته بمواصلة الطريق دون مساعدة. عاد الزهري يقول بإلحاح: انا أحمله عنك فإني أدفعك عن حمله!
أجاب الرجل بوقار وهدوء بالغين: لكني لاأرفع نفسي عما ينجيني في سفري ويحسن ورودي على ما أرد عليه.
اراد الزهري أن يعترض من جديد إلا أن الرجل قال: أسألك بحق الله لما مضيت لحاجتك وتركتني!
ويفترق الرجلان إلا أن وقع اللقاء لايفترق عن ذهن الزهري ويتسائل مع نفسه: الى اين هو مسافر ياترى؟ ولم هذا الاصرار على البقاء وحيداً؟ بل ولم يحمل متاعه على ظهره دون أن يدع من يحمله عنه؟ الا يرى في ذلك مساساً او خدشاً بشخصيته وهو على هذه المنزلة والشرف؟
ثم يقول بكلام مسموع: لابد أن في الأمر شيء قد خفي عليّ؟
عشرات الدور الصغيرة المتلاصقة شبه المندثرة تراكمت هناك وكأنها اطلال أثرية تعود الى قرون خلت فالجدران مرصوفة بخليط عجيب غير متجانس فهذه حجارة الى جانبها جزء من خشبة او جذع نخل وربما جمجمة حيوان وهذه ثغرة رممت بسعف النخيل وهذا جانب منهار ترك على علته مهباً للريح. ومن وراء ذلك بدت أجزاء الدار المتداعية وكلها تبعث على الرثاء والألم وليس باطن هذه الدور بأفضل من ظاهرها او مما ينيف عليه بشيء فلاتجد من أثاث او محتويات إلا كوز ماء مركون في زاوية وصحون وأواني من الفخار في زاوية اخرى ولعل هناك حبلاً من الليف ألقيت عليه بقية أسمار بالية. وإن إلتفت تقرأ صور الفقر والعوز ماثلة تستدر العطف والشفقة.
وفي هذه الساعة من الليل تدب في هذه الدور حركة غير عادية، حركة انتظار وترقب فخلف أبواب الدور المتداعية تلك وقف اصحابها وفي عيونهم نظرة تطلع ورجاء وبين لحظة واخرى تمتد رؤوس تستطلع وجوه المارين ثم تنكفأ من جديد وفجأة سرت بين القوم عبارة مبشرة تقول: جاء صاحب الجراب.
من اول الطريق بدا رجل يتقدم بخطوات ثابتة وقور وبعد ان إقترب كان وجهه قد إختفى خلف لثام. بلغ اول باب أنزل جرابه من على ظهره، مدّ يده الى داخله واستخرج شيئاً أدناه من فيه ولثمه ثم طرق الباب عدة طرقات خفيفة. ولم يكن الأمر بحاجة الى مزيد من الانتظار فقد بدا وكأنه اصحاب البيت على موعد مسبق مع هذه الزيارة فسرعان من فتح الباب وتسلم احد ما الشيء ذاك مع كلمات سلام حارة غير أنها مقتضبة. ويدور الرجل على بقية الدور، يطرق أبوابها باباً باباً وهو متلثم يفرق عليهم مما عنده مشفعاً ذلك بكلمات قصيرة إلا أنها غنية مفعة بالود كأنها تمسح بأنامل حريرية على جراح هؤلاء البائسين.
مضت الساعات طويلة ثقيلة وتقدم الليل وتململ الفقراء الواقفون وراء أبواب بيوتهم المتداعية وسئموا الانتظار وتسائلوا في أنفسهم: هل من الممكن أن يخلف الرجل المحسن عادته الكريمة ويقطع صلته عنهم؟ كلا لايمكن! لقد حضروه في ليالي الكل والبرد، في الليالي الممطرة، في أصعب الظروف وأقساها. في كل ذلك يتفقدهم ولاينقطع عنهم ولكن ما الذي شغله حتى هذه الساعة المتأخرة من الليل؟
خرج احدهم ليقف عند عتبة الباب ويتطلع بعيون وجلة صوب أول الطريق ويتبعه ثاني وثالث ورابع وشيئاص فشيئاً تنزع حالة الانتظار الهم المشترك الكلفة بينهم فيتقاربوا ويفضي بعضهم الى البعض. سؤال واحد سار على لسانهم: ما الذي حصل لصاحبهم، صاحب الجراب ويمتد الحديث ساعة وساعتين ويتفرق القوم ويجتمعون ليلة اخرى ويتسائلون هل من جديد؟ وتتردد عبارة كلا لم نسمع شيئاً. وتمر الليالي على الفقراء والمعدمين مظلمة بعد أن تغيب في سماء حياتهم القمر وتعود الآهات الحرى والدموع الساخنة تمتزج بفتات الطعام الذي يزدادونه ويتسم الذهول على النظرات والفتور على الحركات وتغيض ذبالة الاشراقة عن الوجوه وتموت صبابة الابتسامة على الشفاه وتهدأ الدور فتحاكي صمت القبور.
دخل الرجل العجوز داره ووجهه يطفح بالألم ويغص بالمأساة ولم تفت المرأة هذه الغمامة السوداء التي لونت وجه زوجها فمسحت عنه أي أثر من البشاشة تقدمت منه وسألت: هه هه خير ماذا وراك؟
أشاح بوجهه وقد فاضت عيونه التي أنضبتها السنون بالدموع وقال بحرقة وألم وإنكسار: هه هه لم يبقوا لنا حتى هذه الزهرة المتفتحة التي نتنسم أريجها بين حين وحين!!
ماذا تقول؟
حتى هذه الكوة التي نخطف من خلالها نظرات حالمة بالحياة الكريمة والمستقبل الوضاء!
ما هذا الكلام؟ من تعني؟
يا إلهي ! الرجل المحسن، الرجل الصالح ينبوع الخير والاحسان!
إرتفع صوته بالبكاء!!!
عالجته زوجته بالقول دون أن تترك له فرصة التنفيس عن مشاعره: ما له؟ قل، هل أصابه مكروه؟
من وراء دموعه اللؤلؤية المنهمرة نظر اليها بإشفاق وأطرق قائلاً: قتلوه!!!
ثم رفع رأسه وصرخ: أجل قتلوه، قتلوه. قتله أباطرة الظلم والجور والتعسف، قتله أرباب الجريمة والقتل والهرقال، قتله صناع الخراب والدمار والجوع!!
صاحت المرأة بفزع وإنكار: كلا كلا !!
ردّ بجزع: يكفيني يكفيني ما أنا به!!
ثم أضاف بهياج: ولكنك لم تسأليني من هو ذلك الرجل؟ من هو صاحب تلك الكف الندية التي تمتد الينا بالطعام في جوف الليل؟ كلا أراك نسيتي إننا لولا ياأمرأة لتسربلنا لباس الذل ورحنا نمد أيدينا مستدرين عطف هذا وذاك؟
وإستدار باكياً وهو يقول بصوت تتقطعه حشرجة المحتضر: إنه علي ياأمرأة!!
علي؟ علي بن الحسين!!
تقول إنه ابن الحسين؟
جسده المسجى يحكي القصة كاملة، الثفلات العريضة توزعت لترسم عمق المعاناة التي تكبدها من اجلنا، اجل كان يحمل جرابه على ظهره ليلاً عندما تنام العيون، يطوف بها على الفقراء أمثالنا. لايريد لأحد أن يطلع على حالنا التعيس، لايريد أن يقرأ في عيوننا ذلة الانكسار، يريد لكرامتنا وانسانيتنا أن تبقى مصونة عزيزة.
ويواصل العجوزان نجواهما الحزينة وعيونهما تسح الدموع. ولكم هي حزينة دموع البائسين، أنك تحس وأنت تشاهدها أن جرحاً عميقاً آخر قد إنفتح في جسد هذا البائس نزيفاً جديداً في جسد جندي ملقى في ساحة المعركة وهو مثخن بالجراح.