حيث الكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة المتوشحة بوشاح البيان البديع، والبلاغة الرائعة، والادب الرفيع.
الحكيم عمر الخيام النيسابوري هو واحد من عمالقة العلم والادب في بلاد ايران، واليه تنسب الرباعيات المعروفة باسمه، بالاضافة الى رباعيات اخرى في الحكمة، والاخلاق، والدعوة الى الزهد تبلغ اربعين رباعية.
وهذه الرباعيات الاربعون هي التي ستكون موضوع حلقتنا لهذا الاسبوع من برنامج عبارات واشارات نظراً الى ما تتضمنه من معان واشارات اخلاقية وعرفانية سامية هي الاقرب الى نفسية عمر الخيام، وطبيعة توجهاته اكثر من الرباعيات الشهيرة المنسوبة اليه والتي تشتمل على آراء ووجهات نظر فلسفية تبدو مادية والحادية واباحية نستبعد ان تصدر عن مثل هذا العالم الاسلامي الجليل.
وقبل ان نبدأ باستعراض تلك الرباعيات الاربعين ذات المعاني الاخلاقية، والدينية، والزهدية لابد من القاء نظرة على حياة، ومؤلفات هذه الشخصية البارزة في ميدان العلم والادب، وذلك بعد الفاصل.
اسم شاعرنا عمر، وكنيته ابو الفتح، ولقبه غياث الدين، ووالده ابراهيم النيسابوري، واشتهر بالخيام او الخيامي لاشتغاله هو او والده بهذه المهنة.
وقد اتفق اكثر المؤرخين على ان عمر الخيام ولد في نيسابور من اعمال خراسان في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي، وتوفي قبل انتهاء الربع الاول من القرن الثاني عشر الميلادي.
نشأ الحكيم عمر الخيام في مسقط رأسه نيسابور، وتربى على يد استاذه الكبير المعروف بالامام الموفق النيسابوري الذي كان من اجلّ علماء فارس في عصره.
وقد اشتهر عمر الخيام بفطنته وذكائه ابان تعلمه بين اقرانه من المتعلمين حتى تخرّج بتفوق وبراعة في كل من العلوم التي درسها ولاسيما علم الفلك، ولهذا نجد اكثر المؤرخين يصفونه فيما يصفون بالحكيم الفلكي.
ولما اراد الملك السلجوقي سنة 467هـ تعديل التقويم السنوي كان عمر الخيام على رأس الفلكيين الذين انتدبوا لهذا الغرض، فاثبت في هذه المهمة من الحذاقة ما كان موضع الاعجاب والتقدير، حتى اخذ صيته ينتشر في انحاء العالم.
وهكذا فقد كانت لعمر الخيام مكانة عظيمة لدى الحكماء، وعند العلماء في عصره، وملوك زمانه، فكانوا يعدونه في الحكمة ثاني ابن سينا، ويصفونه بانه اعلم اهل زمانه في علم الفلك والنجوم.
وقد ابى عمر الخيام ان يقبل ما عرض عليه من امارة نيسابور على ما تفيد بعض الروايات، وقال لصاحبه الوزير نظام الملك:
(لا اريد منك اكثر من ان تدعني اتفيّأ طرفاً من ظلال نعمتك الفيحاء لكي اتمكن من نشر ضياء العلم ونور المعرفة داعياً لك بدوام العزة وطول البقاء...
فأجابه الوزير، واجرى له مرتباً سنوياً قدره الف ومائتا مثقال من الذهب، مثبتاً بذلك انه كان من اولئك العظماء الذين اقتنعوا من نعيم الدنيا بالكفاف وبقدر ما يتمكنون من تأدية مهمتهم نحو البشرية...).
وقد روى الكتّاب الذين أرّخوا للحكيم عمر الخيام الكثير من الاشعار الحسنة بالفارسية والعربية مشيرين بذلك الى انه كان اديباً قديراً، وصاحب ذوق رفيع في نظم الشعر، فمن اشعاره قوله مفتخراً بسيره على الصراط المستقيم الحق:
اصوم عن الفحشاء جهراً وخفية
عفافاً وافطاري بتقديس فاطري
وكم عصبة ضلّت عن الحق فاهتدت
بطرق الهدى من فيضي المتقاطر
فان صراطي المستقيم بصائر
نُصبن على وادي العمى كالقناطر
ومن اشعاره الرائعة الاخرى في ذم الدنيا، والدعوة الى الزهد والاقصار فيها قوله:
اذا قنعتْ نفسي بميسور بلغةٍ
يحصّلها بالكدّ كفيّ وساعدي
أمنت تصاريف الحوادث كلّها
فكن يا زماني مُوعِدي او مُواعدي
متى ما دنت دنياك كانت مصيبةً
فسيان حالاً كلّ ساعٍ وقاعد
ومن اشعاره الزهدية الاخرى المنسوبة اليه في الشكوى من الزمان واهله، وقلة وفاء الاصدقاء والخلان مارواه عنه الشهرزوري من قوله:
رَجيتُ دهراً طويلاً في التماس اخٍ
يرعى ودادي اذا ذو خلّة خانا
فكم الفت وكم آخيتُ غيرَ أخٍ
وكم تبدّلتُ بالاخوان اخوانا
وقلت للنفس لما عزّ مطلبُها
بالله لاتألفي ما عشتِ انسانا
تلك الاشعار التي اوردناها للحكيم عمر الخيام، بالاضافة الى شهادات المؤرخين والعلماء المعاصرين له بفضله، وعلو منزلته، وشخصيته المؤمنة المتدينة لتدلّ دلالة واضحة على ان الرباعيات الاباحية المنسوبة اليه لابد وان تكون من نظم شاعر آخر يشبه اسمه اسم حكيمنا عمر الخيام على ما اشار الى ذلك اكثر من مؤرخ وباحث.
فكانت النتيجة ان نسبت هذه الاشعار الى عمر الخيام وهو برئ منها كل البراءة، كما تدلنا على ذلك الرباعيات الزهدية الاربعون التي رويت لهذا العالم والاديب الشهير، والتي سنستعرض طائفة منها في هذه الحلقة، وحلقات البرنامج القادمة باعتبارها من الروائع الخالدة في الادب الفارسي.
حيث يبرز لنا عمر الخيام في هذه الرباعيات على شخصيته الحقيقية، مؤمناً، متديناً ميالاً الى الزهد والورع، معرضاً عن الدنيا وبهارجها، داعياً الخلق الى الايمان، والخوف من الله تعالى، ففي باب الاعتراف بالعجز والقصور امام الحضرة الالهية يقول الخيام:
(اولئك الذين نظموا درّ المعنى بالتفكير
تكلموا في ذات الله كثيراً
ولكن لم يعرف احد مبدأ الاسرار
وانما حاولوا اولاً، وناموا اخيراً
لاتعرفُ انت اسرار الازل ولا انا
ولا تستطيع انت ان تقرأ حروف هذا اللغز ولا أنا
ان حوارنا انما هو من وراء الحجاب
وعندما يسقط الحجاب، وتتمزق الاستار
لاتبقى انت، ولا أنا!).
نكتفي بهذا القدر من الاستعراض للرباعيات الزهدية المروية عن الحكيم والاديب عمر الخيام.
*******