ملحمة الطير، او منطق الطير للشاعر والعارف الايراني الشهير (فريد الدين العطار النيسابوري).
فنقول في هذا المجال ان الطيور لما سمعت مقالة الهدهد، ازمعت السير معه، فانطلق بها وهي تحاوره وتسأله، وهو يجيب السائل، ويردّ المعتذر حتى بلغت الوديان السبعة وهي:
وادي الطلب، ووادي العشق، ووادي المعرفة، ووادي الاستغناء، ووادي التوحيد، ووادي الحيرة، ووادي الفقر والغناء الذي هو غاية الغايات.
وهذه الوديان هي - كما قلنا- المقامات السبعة التي يتدرج فيها العرفاء، ويسلكون من خلالها سبيل الكمال، وصولاً الى المحبوب الازلي حيث الكمال، وحيث الفناء والذوبان في ذاته المقدسة.
وبعد اجتياز هذه الوديان اخذت الطيور طريقها الى السيمرغ، فقضت في سلوك منعطفاتها، والتصعيد والهبوط في حزنها وسهلها سنوات عديدة، وعمراً طويلاً، وقاست من المحن ما يقصر عنه البيان والوصف.
وهلك اكثرها، وتخلّف بعضها حتى لم يصل من آلاف الطيور الى تلك الحضرة الا ثلاثون طائراً كلها مهيضة الجناح، واهنة الجسد، كسيرة القلب، فماذا رأت يا ترى عند تلك الحضرة؟
يصف لنا العطار ما تجلى لنظر الطيور شعراً فيقول:
(رأت حضرةً لا وصف لها ولا صفة
اسمى من الادراك، والعقل، والمعرفة
حينما كان برق الاستغناء يمض
كان يحترق مائة عالم في لحظة واحدة
مئات الالوف من الشموس الهائلة،
ومئات الآلاف من الاقمار والانجم واكثر
كانت الطيور تراها جميعا تُقبل حائرة
وقد جاءت ترقص كالذرّة…
فقالت كلّها: يا للعجب؟ اذا كانت الشمسُ
ذرّة من العدم امام ذلك الجناب
فكيف نظهر نحن في هذا المكان؟!
فواأسفاه على ما قاسيناه من العنت في الطريق
لقد يئسنا كل اليأس من انفسنا
فالامر ليس كما كنّا نتصور
فمائة عالم هنا لايساوي سوى ذرّة من تراب...).
وبينما هي في تلك الحال اذ اقبل نقيب العزة الالهية، واستخبرها جلية الامر، فأخبرته بقصتها، فأجابها قائلا:
(ان كنتِ او لم تكوني في العالم
فانه السلطان المطلق الخالد
ان مئات الآلاف من العوالم الحاشدة بالجند
ليست سوى نملة على باب هذا السلطان...).
ومثلت الطيور الثلاثون في حضرة السيمرغ، فهان في اعينها ازاء هذا الجلال كل ما تكبدت من مشاق، وقاست من اهوال في سبيل الوصول الى تلك الحضرة، وتجرّدت من كل غرور وكبرياء حتى صارت ارواحها من الخجل والحياء فناء محضاً بعد ان اجابت النقيب قائلة:
(كيف يصرفنا هذا السلطان المعظم أذلاء
ولم يكن لأحد منه ذُلّة قط؟
وان كان، فما كان الذلّ منه غير العزّ
وكلّ ما كان وما لم يكن من امرنا
زال، وامّحى تماماً من صدورنا...).
وبذلك اشرقت منها شمس القرب، فأشرقت ارواحها بنورها، ورأت في انعكاس صورتها علهيا صورة السيمرغ الذي هو رمز استعارة العطار للكمال المطلق، فاذا نظرت الى انفسها رأته، واذا نظرت اليه رأت انفسها، واذا نظرت اليه والى انفسها معاً رأت شيئاً واحداً، فالسيمرغ هو الطيور الثلاثون، والطيور الثلاثون هي السيمرغ.
فغرقت على اثر ذلك في بحار الحيرة، وظلت في تفكر من غير ان تهتدي الى سر ما شاهدت، وانبرى لسان الحال يسأل عن هذا السر بعد ان عجز لسان المقال.
فأُجيب بان تلك الحضرة مرآة كالشمس، وكل من يأتي يرى نفسه فيها، جئت ثلاثين طيراً فظهرت في هذه المرآة ثلاثين، ولو جاء اربعون، او خمسون او ستون لرأت انفسها كذلك، لقد شاهدت انفسك، ولا سبيل لأعينك الكليلة الى مشاهدتنا، لقد فنيت فينا بكل اعزاز لتجدي انفسك فينا من جديد.
ويأتي النداء بعد ذلك مالئاً اسماع الطيور، وواصفا العظمة الالهية، والجلال الربوبي، وحيرة الخلق في امره، فترتج ارجاء الوجود لهذا النداء وهو يدوي معلنا واصفا بداية الامر، ثم امتداداته، وآثاره:
(واعجباً من بداية امر السيمرغ
لقد مرّ متجلياً ذات مرّة في نصف الليل
فسقطت منه ريشة في قطر من اقطار الارض
فأخذ كلٌّ نقشاً من تلك الريشة
وكل من رأى ذلك النقش اتخذ عملاً...).
(... لو لم يُظْهِر نقش ريشته عياناً
لما كانت كل هذه الجلبة في العالم
كل آثار الصنع هذه من جلاله
النقوش جميعها من نقش ريشه...).
ويعبر الشاعر اخيراً عن فناء الطيور في حضرة السيمرغ، وذوبانها فيها، واستغراقها في الجلال والعظمة مختتماً من خلال هذا القول ملحمته الطيرية:
(امّحتْ فيه اخيراً على الدوام
ضاع الظلُّ في الشمس والسلام).
*******